قبل عدة أيام مرّت علينا الذكرى الأولى لاستشهاد القائد الفذ عبدربه الشدادي..
ومثل الشدادي لا يحتاج إلى استجرار بيانات النعي، ولا إلى إعادة فتح سرادق العزاء.. إنه أكبر من ذلك.. بل إنه استشهاده في مضمار الوطن كان نتيجة طبيعية للمقدمات التي صنعها منذ يفاعة شبابه والتي شهدت عليها مواقف عديدة أبانت عن معدن أصيل وكشفت عن جوهر فرد من الرجال، وكان من تكريم الله له في الدنيا هذه الميتة السوية العظيمة التي تليق بالعظماء أمثاله.
الشهادة ليست جنازة في الأرض ولكنها عرس في السماء.. ولأنها كذلك فإن بركتها تصل إلى الأرض.. الأرض التي أنجبت الشهيد، وراشت جناحيه وصنعت قوادمه وخوافيه ليحلّق مع الملأ الأعلى في جنة عرضها السماوات والأرض..
في شهادة الشدادي يتجلى هذا الأمر بوضوح.. من خلال تعزيز قناعات الناس بعدالة القضية التي سار في ركبها هذا الطابور الطويل من العظماء.. كان منهم القشيبي والشدادي.. ولا يزال في الأمر متّسع لعظماء آخرين ضربت لهم أقدارهم مواعيد جميلة مع شهادة أجمل.
ومثلما كانت كلوم الفقد غائرة في هؤلاء النجباء لدى عموم الشعب المصابر كان اليقين يتعزّز، والمعنويات ترتفع والإيمان يرسخ بفجر قادم يزداد عمقا واتّساعا.. حتى كأن كل جنازة شهيد هي مرقاة في معراج الوثوب صُعدا، ودرجة ترتفع بالحق وتقيه من مشاعر الانتكاس والارتكاس، لأنَّ تاريخ الإنسانية الطويل يدلل أنَّ المآرب العظيمة تشترى بتضحيات الرجال، وأن كل قطرة دم هي تسديد لجزء من هذا الثمن.. وفي نعش الشهيد فقط تشعر أنَّ المحمول على الأكتاف ليست تلك الجثة البالية التي خلعها الشهيد انطلاقا إلى رحاب الله، ولكنه وطن مرفوع على أكتاف أبنائه.. يصنع من الموت ميلادا ومن الأشلاء والدماء مبسماً لفجر جديد.
إنَّ حضور هذا الطابور النقيّ من الشهداء في وجدان وذاكرة الشعب اليمني – والشدادي واحد منهم- ليقف بنا على صدق التنزيل حين يؤكد(بلْ أحياءٌ).. نعم أحياء.. ليس في السماء فقط.. وإنما أحياء في كل مواطن العزة والكرامة.. يستلهم الخلف من سيرهم معاني الحرية ومفهوم صناعة الشهادة، وهم أحياء في نفوس محبيهم ممن آمن بهم وبرسالتهم.. نعم أحياء باقون.. فكم من القادة في صفوف الباطل سقطوا، فأقاموا لهم المآتم وأغدقوا عليهم ألفاظ العظمة، ونياشين التكريم.. ثم نسوهم.. نسوهم.. نسوهم.. حتى صاروا أوراقا يابسة تلعب بها رياح الغفلة في الأدغال الموحشة والصحارى المقفرة.. أما شهداء الحق فإنهم حاضرون أبدا.. ولحضورهم دفء الشمس وألق الحرية.
ولقد كان للشدادي حضوره المتفرّد..
آمن به كل من عرفه.. ولأن من سنن الحياة وجود المُختَلَف.. والمتَّفَق.. فقد كان الشدادي متّفقا عليه لدى كل أفراد جيش الشرعية.. حين وجدوا فيه قائداً شجاعاً.. نقياً من لوثة الألقاب ومسمّيات الرتب والنياشين.. كان حاضرا بينهم.. يأكل مما يأكلون.. ويلبس مما يلبسون.. ويتسابق معهم على الصفوف الأولى إذا حمي الوطيس.. اتّخذ من مواقع المواجهات صديقا حميما.. فلا يغيب عن موقع إلا اكتنفه موقع آخر.. وحين أصيب في إحدى المعارك وأسعف على الفور لم يكن ألمه لجراح توزعت جسده، ولا لدماء طاهرة تنزف منه، وإنما لفراقه تلك الآكام والشعاب التي بادلته حبا بحب ووفاء بوفاء.. ولم يكد يبرأ من إصابته حتى عاد إليها مستشفيا طالبا سكون النفس ونعيم الروح... وقد كان من حميمية هذه الآكام والشعاب أنْها كانت بين الفينة والأخرى تفرحه بزيارة قريب من الأهل والولد.. يقرأ في عيونهم عتب الانصراف عنهم.. ويقرؤون في عينيه جسارة التضحية وقوة العزيمة..
لم يخفه ذلك التهاوي المذهل الذي تداعت له مختلف المعسكرات، ووصل غباره إلى كل مناطق اليمن عشية الانقلاب على الثورة.. لم يخفه ذلك.. وإنما دفعه إلى البحث عن كنف مؤاتٍ لإعادة لملمة الصف وتنظيم الجاهزية، والسير في مقاومة الردة عن الجمهورية في ثلة من الرجال الأوفياء من أتباعه ومريديه مؤمنا بحتمية الوصول وبأنَّ ثورة ضحى له الشعب بكل غال ونفيس لا يمكن التنازل عنها بأية حال من الأحوال.. وبأنه وهو العسكري المعوّل عليه في الانتصار للوطن مثل غيره من حماة الجمهورية مطالب بالبدء في رسم خطوط المقاومة رغم شحة التجهيزات.. وقلة العدد والعدة.. وبأن الله يتولى الصالحين.
استشهاده كان تأكيدا على واحدية درب الثورة.. وعلامة مضيئة في هذا الدرب الذي أضاءه علي عبدالمغني ومحمد محمود الزبيري وإبراهيم الحمدي وحميد القشيبي.. وهو درب يصطفي له الله الأخيار من الرجال.. ومثل هذه الذكرى العظيمة لا تحيا بإيقاد الشموع أو بحلقات الندب والنواح.. وإنما بالوفاء لمبادئها العظيمة.. كلا من موقعه.. فلم يكن هؤلاء الأبطال غير مبادئ كريمة توحّدت بالوطن جهادا فنالت به وسام الشهادة.