المواطنة تطور الإنسان، وهي شفاء وجداني. أما الطائفية فهي عقدة المشوهين، وتغتال العقل. لذلك لا يمكننا أن نفلح في النجاة من ورطة الفناء الوطني، إلا بعد أن نتفق على أن يكون الصراع من أجل تنمية مصالحنا المشتركة -كشعب يفترض أن له همومه الأكثر تجانساً- في توطيد الدولة والتمدن والرقي والسلام، لا من أجل تكريس المصالح الاستغلالية لمراكز التخلف والهيمنة والنفوذ والتمييز.
بالتأكيد يبقى من المحال -حسب مقتضيات حالتنا اليمنية الراهنة المعقدة- أن نشهد ازدهار الإبداع الوطني، من دون إصرارنا على ضمور كوارث السلاح والفساد واللامبالاة الاقتصادية والتحيزات الجهوية المتقوقعة، كل هذا بمقابل توقنا الموضوعي طبعاً لتفعيل قيم التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والقانون، متحررين كما يلزم من انفعالات قيم العصبة والغلبة والكراهيات والنزعة الطائفية، وفاعلين بشكل سوي عبر آليات السياسة والتنوير والتعايش ونزعة المواطنة.
فالمواطنة قشتنا الأخيرة للإنقاذ الضروري والحيوي، لأن الطائفية غرقنا الجمعي في الخراب الشامل. كذلك المواطنة أن لا نمحو بعضنا بعضاً بفاشية مذهبية أو مناطقية أو عرقية أو طبقية كلما حانت الفرصة، فيما الطائفية أن لا نمتلك ضميراً مسئولاً، لا يضطهد أو يهمش أو يتسلط أو يقهر.
وبالموازاة يبقى على الدولة أن لا تعرقل كل تجديد، أن تتجاوز عقدة البيروقراطية الجامدة نحو النهضة، متأقلمة مع مقتضيات العصر الضاغطة خصوصاً إذا كانت ممارساتها تنتمي إلى عصر بائد، يعيد الأداءات التي تعمل على تصديع المجتمع وتفكيك ثقة المواطنين بها في تناقض صارخ بين مهمة الدولة المنشودة وأفكارها القائمة على موروثات لم تستطع الخلاص من حملها الثقيل.
بلغة أخرى لإخلاص من الطائفية إلا بدولة مواطنة ذات معايير ناضجة لا تسطيحية، تعزز قيمة الدولة في صيانة الحقوق والحريات، كما تعادي الطائفية، عبر بلورة الواجبات وفق المساواة لا غيرها، بدلاً من استرسالها في العكس.
دولة معركتها الحقيقية القضاء على الفقر والإرهاب وسوء استغلال السلطة والاقطاعات المذهبية والقبلية.. تمنع الاستئثارات وتغولات الفساد والتمزقات الاجتماعية والسياسية، في حين تقاوم كل أسبابها على أسس وطنية حضارية وأخلاقية، وتحت ظلها تكون هويات المواطنين واحدة كمواطنين لا كرعايا أو كمراكز قوى او كطوائف او كجماعات.
تلك هي الثوابت المبدئية لمفهوم الدولة المدنية الحديثة التي ينبغي عليها تقوية الكيان الوطني الجامع لاتقوية الولاءات الصغيرة التي تتحول إلى دولة داخل الدولة.
ثم حين يتم استنهاض التعبئة الطائفية بوعي تهافتي تأجيجي يعيدنا إلى روابط ما قبل الدولة الوطنية للأسف، ليس من نتيجة بالمحصلة -لكل هذه الهشاشة التي دمرت الحلم الكبير- إلا أن نخضع للاستبداد دون شروط أو مقاومة ليهندسنا على مزاجه، مساومين ومتواطئين بإذلال وبخوف، أو بانتهازية لاعقلانية فادحة وصادمة.. أعني أن نكون اجتثاثيين أو مهاجرين، ما لم نصبح في هذا السياق مجرد شهود على حالة البؤس الرهيبة والمخزية التي صارت تستلبنا، بينما علينا بالتالي بلع ألسنتنا وعدم الرفض، أو الاستعداد التام لقطعها من قبل الأقوياء. باختصار شديد، لن نكون حينها إلا عبارة عن قتلة أو قتلى -هكذا غالباً- لا اقل ولا أكثر، سواء بإرادتنا أو بدون "لافرق".. ! ولا عزاء لمن فوتوا فرصة أن يصبحوا شعباً، كما فوتوا على أنفسهم فرصة تحقيق الدولة الضامنة.