كل حرب لابد أن تنتهي مهما طالت.
هكذا يقول التاريخ.
إلا أن إرث الحرب الأهلية بالذات لا ينتهي في نفوس المتضررين، خصوصاً وأنه يصعب محاسبة الجماعات المتنازعة على جرائمها المرتكبة أثناء الحرب.
والشاهد أن لعنة الحروب تظل تلاحق الذين أشعلوها على مستويي الضمير والأخلاق.. في حين يستمر كل طرف في التذكير بجرائم الطرف الآخر فقط ما يعني استخدام الضحايا كورقة للمزايدة والاستغلال.
ذلك أن كل طرف في الصدام المسلح لا يستسيغ فتح ملف مستقل لضحايا هذا الصدام حتى أن كل طرف فيه مهما بلغ نفوره من الطرف الآخر سنجدهما رويداً رويداً يفضلان العمل على تسوية تغض الطرف عن فظاعتهما الدموية وباعتبار أن وقف الحرب بحد ذاته يمثل الإنجاز الأكثر أهمية الذي يجب التشبث به -لا بغيره- ما لم فإن العنف سيستمر.
ثم إن هؤلاء يعتبرون في هذا السياق أن النظر للماضي بمثابة مؤامرة عليهم وعلى مستقبل البلد وبالتالي لا يمكن أن تطاق مؤامرة كهذه مهما رطنوا وأزبدوا وأرعدوا بحق الضحايا في العدالة اللائقة..
ما سبق يؤكده للأسف التاريخ الطويل للعنف السياسي الذي يفضي إلى حروب أهلية بحيث تتوصل الأطراف المتحاربة -وقد تورطت في جرائم حرب شنيعة كلها- لتسوية تفاهمية توفر لها المشاركة السلطوية بعد إيقاف الحرب.
إلا أن ضحايا عنفها لا يجدون أي إنصاف فعال.
فضلاً عن أن تسييس القضايا والتعامل معها بانتقائية هو الصوت التسويفي الأكثر صخباً حينها.
وبالتالي لا يمكن أن يفهم كل السفلة الذين يعملون على تسعير هذا النوع من الحروب بان الإشكالية الكبرى تكون بعد إيقافها حيث مآسي الضحايا تظل مفتوحة.
بل لطالما استمرت أطراف الحروب تتهرب من إيقافها –إلى حد الانتحار- جراء مخاوفها من مرحلة ما بعد الحروب أصلاً.
من هنا لا نستغرب أن يتفاهم كل طرف على إحياء النسيان بدلاً من إحياء الذاكرة كمخرج إنقاذي لكل طرف كي لا تلاحقه آثامه.
بل يخبرنا التاريخ أن الغاية المضمرة لأطراف الحروب هي أن يحصلوا على تبجيل مجتمعي زائف لمجرد أنهم وافقوا على إيقاف الحروب فقط كونهم لا يهمهم أي شيء آخر يترتب على ما بعد الحرب مثل اهتمامهم العتيد بأن يضمنوا دوراً سلطوياً مطمئناً..
وأما المطالب الحقوقية والإنسانية تصبح بالنسبة لهم مجرد تسويفات ومضايقات حمقاء غير محبذة على الإطلاق.
هذا طبعاً في حال وضع سياسي قاد إليه توازن القوى أما إذا انتصر أي طرف ضد آخر فإنه لا يلتفت سوى لجرائم الطرف المضاد كما أسلفنا متنكراً لكل جرائمه.
و في الحالتين للأسف نكون أمام وضع لا تكون السيادة الموضوعية فيه للقانون وللحق وللمحاسبة ولجبر الضرر بقدر ما تكون سيادة الأمر الواقع فيه للغلبة وللمزاج وللاعتساف ولاجتزاء الحقيقة.. وبس.