من جنوب شرق آسيا إلى غرب مملكة الإسلام إلى تغلغل المسلمين في الفلبين وماليزيا إلى "بورما" دمعة الحاضر إلى نزوح 90 ألف مواطن براً وبحراً إلى البيوت والمآذن المحروقة قالت: لنا إن أحلامهم قد تكسرت تحت أقدام البوذيين.. قالت: لنا قد صرنا في عهد حكام العرب، عرايا في عيون الناس يصرخُ عُريُنَا البرد والليل الطويل.. الحلم واليأسُ الطويل القهر والخوف الطويل.. ماذا نقول عن الرحيل هل نهتف بين جدران السكون؟ ماذا نقول عن البقاء.. هل نبحث أين ضمير المُسلمين؟
في الوقت الذي نرى أن للأقلية الدينية ذاكرة جماعية لها تداعياتها ومطالبها الثقافية والحقوقية ولها دورها في وعي ذاتها وفِي تحديد سياسة الدولة تجاهها وتجاه قضية المسلمين في "بورما" التي يجب إلزاماً أن لا تتشظَّى إلى هوَّيات مبعثرة ومتنافرة مهما ابتعدت أو اقتربت مسيرة السلام من جوهر السلام لاسيما أن اللغة التي ورثناها حينذاك كانت بلا انتظام وكان حرف العين قد بلغ حدّ الإشباع في وصف ما لا يقترب من وصف حالتنا المحزنة التي صارت حتى اللحظة كسطورٍ ساقطات.. كفُتاتٍ من كلام.. كذكرى في عتاب.. كدموعٍ لا تنام.
هكذا يبدو المشهد في تفاصيله المؤلمة أشلاء عبير ودماءً في غدير هكذا يبدو أن ما يجرح طيفك وطيفي في مضيق هذا الزمان وهذا المكان هو أن نظل نتبادل صور ومشاهد ضحايا المسلمين في "بورما" أكثر عما كان وعما هو كائن وعما سيكون بالتطابق مع صورة ضحية أخرى يرسمها الآخر لنا في كل ثانية بقوة اللاهوت والسيف معًا، وفقاً لموازين قوى تتحول فيما بعد إلى جماعة "بوذية" من حقها أن تجعل الموتُ يرقُصُ حولنا وأن تجعل النَّاسُ في بورما تسْكرُ في ظلام اللَّيل خوفاً وهروباً من دمِّ النَّهار.. فـفي كُلِّ بيتٍ جريح وبَكُلِّ بُستَانٍ ضريح.
فَـزمانُنَا زَمَنٌ قبِيح.. وطنٌ يُباعُ وهوية تطمس وأُمَّةٌ ثكلى تُساق إلى المزاد، إلى الضياع وإلى صدر الظلام.. فـلم يبقَ مِن فُرسانها غيرُ الصَّهيل وأغنيات الحُزن أشلاء الجِياد.. لم يبقَ من نيرانها غير السَّبايا والرماد، لم يبقَ من كُهَّانها إلَّا سجون القهر أوكار الفساد ماذا سنفعلُ نَحْنُ المسلمون في هذا المزاد؟ والطفل والأم ورقعة الإسلام في "بورما " تلبسُ أثوابَ الحداد.. فلمن سأشكُو يا أبى؟ لمن سأشكُو يا أبى.
ليس ذلك سؤال الغريب للغريب بقدر ما هو حزنًا صوفياً على هوية دينية يبلغ عدد سكانها 3-4 ملايين مسلم، ولدت منذ أكثر من 200 عام! لتتحول بعد ذلك إلى أقلية دينية يمارس عليها أبشع أنواع القهر والتعذيب صبرًا.. فلا الغريب ابن حيّان ولا الغريب رائحة الرماد، ولكن صوتاً ما فينا سيقول لنا: إن لم نكن قادرين على الوقوف إلى جانب إخواننا المسلمين في "بورما" فلنذهب معاً إلى الجحيم إلى مضاجعة الأحزان وإلى زمان ماتت البسمةُ فيه وانطوت أحلامُنا الثكلى رمادًا في دِمانا، لأن للتاريخ مجرى ولأن للشهداء حياة أخرى، حياةٌ تعلمنا الثأر من قوة السيف بتحويل السيوف إلى محاريث وبانفتاح الهوية الوطنية على الهوية الدينية، وبكلمة الحق على الباطل، فلا هوية تحيا من ذاتها المنغلقة على ذاتها وعلى ثباتها بدون الوقوف إلى جانبها.
فـفي الذاكرة فردوس مفقود وفِي بورما لا مكان للفرح الصغير، فلم يعد هناك مبرر لابتلاع الحروف الصوتية ولم يعد هناك مبرر لكل هذا الصمت العربي الجمّ الذي لازلنا نحاول أن نضعه على رأس اللغة كقبعة مكسيكية.. لم نعد قادرين على تفسير موتنا أو على ممارسة حتى الرقابة على أحزاننا فما دام الأطفال والنساء والشباب وكل ما ينطق بكلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) يسقطون في كل لحظة ويدخلون في قائمة المرحومين أو المفقودين سهواً.
فلتسقط كل العنتريات العربية والكرنفالات التنكرية ولنكفّ فوراً عن هذا الزنى الدبلوماسي والصمت المتواصل اتجاه ما يحدث للإنسان والإنسانية في "بورما" لاسيما أنّه لا يمرَّ يومٌ واحد بلا مجزرة ولا يمرّ يومٌ واحد ليرتاح اللون الأحمر من الصراخ.. لذلك ينبغي علينا أن لا نذهب وأن لا نعود إلّا في ما يجعل القضية تكويناً على تكوين حقيقي وإن اختلفت طريقة التضامن في الوصول إلى الفاعلية الحقيقة، حتى لا يتمكن قطاع الطريق من نهب الهوية الدينيّة أرضها أو نهب الأرض هويتها.. فمن حق الطفل في مساءلة أبيه إلى حق المرأة في خلع الرجل إلى حق المواطن في تغيير الحاكم إلى حق المجتمع في التخلص من الاستبداد والظلم إلى حق الكاتب في التمييز بين معنى الموت ومعنى القتل إلى حق المسلمين في بورما ( أن يحلُموا بأنهم أحرار وأن لهويتهم الدينية من يدافع عليها) .. فـليس سلام الحكام والعبيد إلّا سلاماً عابراً كسحابة صيف، أما سلام الحر مع الحر وسلام المسلم مع أخيه، فهو المطر المشترك على جفاف الأرض المذبوحة من الوريد إلى الوريد، فـليس في الغد ما يكفي من الوقت إذا لم يكن الحاضر ملكيتنا المتساوية في تحديد المصير.