خلف تلة جدباء صغيرة توسط شيخ هزيل الجسد عدداً من الرجال الأشداء، تخرج كلماته بقوة وعزيمة مخالفة تأكل جسده على يد السنين التي تجاوزت الستين..
لا تستطيع تبين الكثير من ملامح وجهه، خدود جوفاء متكئة على فك قوي، وجرح قديم يعلن عن نفسه بأنف مبتور ومحجر عين فارغ..
تنفذ العين السليمة مخترقة المحاربين الملتفين حوله كسهم حاد يبحث في أعماقهم عن أي وهن أو لمحة تردد مختبئة..
لا مجال للتراجع الآن!!..
استمعوا له بإنصات شديد وتفرقوا منفذين أوامره بكل دقة، اتخذوا أماكنهم فوق تلال وتباب مرتفعة وخلف كمائن أعدوها مسبقاً..
سكن الرجل كالصخرة الجامدة أمامه مرهفاً حواسه للطريق الترابي، وكأن دهراً مر عليه وهو متأهب بسكون كشف زيفه قلبه الخافق بضراوة.
طرف جفنه مع اقتراب غبار العربة السوداء وهي تشق الطريق الترابي وبين جنباتها جزار اليمن، أخرج ورقة صفراء من جيب محفظته، وثبت نظره للمرة الأخيرة على أختام العلماء الممهورة على إجازة له بالقضاء على ذلك المتخفي وسط العربة، لفها على مقبض زناده وضغط عليها بشدة، وهو يغمض جفنه ليطرد صور الماضي التي أقبلت تراوده عن نفسها..
ازدادت نبضات قلبه بإيقاع متسارع، طبول حرب قوية تصم الآذان لكنها تنذر بخير قادم..
لم يكن خائفاً، لم يتجرأ الخوف على الاقتراب من قلبه حتى وهو فتى يقارع وحوش البرية، فقد خُلق قلبه منزهاً من الخوف والرهبة.
توقفت العجلات لتزاح الصخور المعيقة لدربها، ولم يلحظ أحد من الحراس ذوي الثياب الزرقاء النظرات المستعدة للانقضاض، والأنفاس التي تنفث نيرانها لتشعل ساعة القصاص..
لم يكد الحراس ينحنون للصخور، حتى رفع الليث رأسه من مكمنه وصاح بصوت جهوري: "أطلق"..
قضت أصوات الرصاصات عليهم قبل أن تصلهم نيرانها، مستثنية الإمام الذي تركته ليواجه نيران غريمه القديم..
لهثت البنادق زافرة رائحة البارود بعد أن أفرغت ما في جوفها، واقترب (على ناصر القردعي) بمشاعر كثيرة تجتاحه وهو يراقب فرار الروح التي تم إزهاقها من ظلاله.
حزن، وجع القيد القديم، مرارة انتقام، أمل يتجدد!
لم يترك المجال لأي منها، فالمعركة لم تبدأ بعد!!
غادر مشاعره والجسد الملقي، وطفق يمشي متحدياً خيوط الشمس وأرواح أصحاب الرؤوس التي قطعت على يد الجزار تلاحق خطواته وهي تسمع صدى الجبال تردد:
ياذي الشوامخ ذي بديتي ... ماشي على الشارد ملامه
قولي ليحـيى بن محمد ... بانلتقي يوم القيامة
ولم تنته فصول تلك القصة حتى اليوم..