لم يسبق أن أحس كل يمني سوي، بفظاعة ضياع الدولة، وجنون السلاح المنفلت، ومشاريع الانقلاب والإرهاب والتحشيدات الجهوية ما قبل الوطنية مثل هذه اللحظة.
ولذلك فإنه باستثناء المتعصبين لحماقاتهم وعصبوياتهم، يبقى على الغالبية الشعبية تنظيم صفوفها، بمرونة واقعية باتجاه الضغط لفرض الأولويات الوطنية على الواقع. وعلينا أن نتشافى من تناقضاتنا، ونفهم طبيعة المرحلة ومقتضياتها، بتماسك أخلاقي وقيمي يتجاوز ويهزم منطق الكراهيات المناطقية والمذهبية.. فما دون هذا التغيير في تفكيرنا، ستنتصر لاشك اختلالاتنا المنتشرة على التوازنات التي نأملها، بينما لن نتمكن من العيش سوياً سواءً كنا في الشمال أو في الجنوب.
ولقد كان يفترض إصلاح بنية الدولتين قبل توحدهما في العام 90، بدلاً من توحدهما وهما بحالة عميقة من الأزمات كما حدث، ثم ما بعد حرب 94 كان يفترض الإنصات الجيد إلى مطالب إصلاح مسار الوحدة وتعضيدها بمطالب إصلاح الدولة بالضرورة، بدلاً من التجاهل غير المسئول المأخوذ بنشوة تنمية المصالح المشوهة والامتيازات الجشعة فقط، ما فاقم المأزق المزدوج للمسارين، بحيث أفضى إلى عدم إصلاح مسار ثورة 2011 وبالتالي إلى انقلاب 2014 وحرب 2015 التي أكدت محق وتلاشي الدولة، وبالنتيجة تجريف وتهشيم الوحدة أكثر..
إلا أن استعادة الدولة بالتزامن مع ترميم الوحدة من أجل إصلاح مسارهما معاً، كان ومازال هو الممكن غير المستحيل رغم كل شيء، إذ لا يزال في الحلم بعض رمق يتطلب الإنعاش العاجل، الأمر الذي يستلزم نفي الجميع لظاهرة الرفض المطلق أو العناد من أجل مصلحة المجتمع لا مصلحة جماعاتهم، مالم فعلينا الإقرار بأن تصاعد مسار اليمن المنكوب على جميع المستويات والصعد هو آخر ما تبقى لليمنيين من جحيم يتسع.
وليعلم الجميع بأنه لا خلاص لأحد من تداعيات الانهيار الرهيب والمرعب، فكلما توحش العقل الرديء قام بالتهام الإرادة الإنقاذية، وكلما استمر كل طرف يمارس العداء ضد نفسه وضد الأطراف الأخرى، سيصبح الألم العبثي والقاسي هو الهوية الوحيدة التي ستجعلنا جميعاً نصل إلى ذروة تهلكة كاسحة لن ينجو منها أي طرف.
غير أن من أكبر الأخطاء التي لن تغفرها الأجيال القادمة هو استسلامنا الفج للنخب المتصادمة ضيقة الأفق، في حين قررت أن تمنح الشقاء للحاضر وللمستقبل معاً، جراء استمتاعها المخيف بالانتقامات والمكائد والتنصلات والمراوغات، مصممة على استدامة طرائق العنف رغم أنه صار يستغرق ويصطخب في إرهاقنا وإفراغنا من محتوانا الوطني لنصبح جميعاً بلا أي معنى مبشر بالخلاص.
لذلك كله كان ومازال علينا أن نتمرد على البروتوكولات والتسويات والتفاهمات غير المقبولة وغير المعقولة لتلك النخب البائسة مهما كانت العواقب، و باعتبار ذلك هو المعيار النوعي والفاعل بالطبع لخلق تيار شعبي وطني متين وفق رغباتنا ومعاناتنا الجامعة، بل من المهم أن تردد أصداؤه في كل أرجاء اليمن، بما يعيد ثقة اليمنيين بأنهم شعب واحد يتوق إلى تحقيق حلم واحد غايته بعث مشروع الدولة الوطنية الذي أفشلته تلك القوى الأنانية العمياء شمالاً وجنوباً، وبالتالي الدأب على إنجاحه للحفاظ على وطن للأجيال القادمة كما ينبغي.
والحال أن الفرصة صارت مواتية أكثر من أي وقت مضى لنبدأ بتحقيق هذه المعجزة التي انتظرنا كيمنيين على مدى عقود نضج تراكماتها وشروطها الموضوعية، كي تنبثق بوعي وطني موحد، وحتى يكون الإنضمام لصفوفها بدرجة عالية من الحس المدني والحضاري والديمقراطي الذي يتسم بالفاعلية والإجماع، وعدم انسداد المسار ما سيؤدي رويداً رويداً إلى تحقيق وتأمين دولة المواطَنة المتساوية والمؤسسات الصلبة والراسخة والوطن العادل والحقيقي للجميع. بمعنى آخر أن تتوق غريزتنا الفاعلة الآن إلى معاضدة مطلب الدولة أولاً وتأجيل كل الاختلافات الفرعية حول العديد من الرؤى السياسية.. ذلك أن تقديمها على مطلب الدولة في الوقت الحالي سيجعلها ويا للأسف تتأسس على وعي سطحي صادم لا تحتمل مغامراته ولا تطاق. ثم حين تكون الشرعية فاسدة حتى النخاع لا تعولوا عليها لدحض الإنقلاب الغاشم. ذلك أن فاسدي الشرعية يغذون الإنقلاب. ثم إنها أسوأ وأفظع مرحلة قدر لنا أن نحياها إذ ليس من أخبار جديدة سوى أخبار القتلى والجرحى والجوعى والمرضى ومفاسد الإنقلاب ومفاسد الشرعية
أيضا. والحال أن هناك من يقولون بأن الناس تعبت من الحرب..لكنهم لا يقولون الناس تعبت من الإنقلاب الذي هو سبب الحرب أصلا. غير أن هذا الإنقلاب الاصطفائي الانتقامي الميليشياوي الوقح ليس نهاية التاريخ في اليمن، والأيام دول والحرب نزال، ولا مستقبل للجميع إلا بمواطنة متساوية تفرضها دولة تحتكر السلاح ويسودها القانون وليس فيها سيد ومسود.
وفي الوقت الحالي تزدهر وتتطابق شتى أنواع مافيات الفساد والإستغلال في جانبي الإنقلاب والشرعية وجميعها لا تأبه لما وصلت إليه مأساة اليمن وأهوال اليمنيين.
وللأسف ثمة تصميم لئيم وشرس ومخبول لاضمحلال كيانية الدولة اليمنية واعتباريتها فيما يتم تجريفها العملي من قبل كل الأطراف حتى صرنا أمام تطبيع سافر لتضارب قرارات كل الجماعات المتعالية على الدولة اليمنية.. وهكذا نبدو اليوم وكأننا أمام دولة في مأرب ودولة في عدن ودولة في المكلا ودولة في صنعاء ودولة في صعدة ودولة في تعز إلخ .. رغم أن حاصلهن جميعاً هي دولة "اللادولة" فقط.. وفيما تمزقت الأوصال جراء الإنتقامات والإقصاءات والأوهام: صار المواطن "اللامواطن" لا يفرق كثيراً بين الانقلاب الطغياني الهمجي والإنفرادي الذي لا يأبه بفداحة ما تسبب به، وبين تعدد الشرعيات الأنانية والخادعة والبلهاء المتربصة ببعضها تماماً.
وبالتأكيد لن تكون الشرعية شرعية خصوصاً في المناطق التي تحت إدارة قوات محسوبة عليها، إلا بإنفاذ سلطات الدولة بدلاً من ترسيخ سلطات جماعات مسلحة ومنفلتة فقط.. ما لم فمن الطبيعي أن يكون هذا الإنقلاب ضد الشرعية من داخل الشرعية نفسها، هو أسوأ بمراحل من ذلك الإنقلاب السيئ الذي حدث ضد الشرعية من خارجها، وأراد لنفسه إنفاذ شرعية الأمر الواقع بالميليشيات اللاشرعية.. كما أن استمرار مختلف الإنقسامات والأجندات المتضاربة في صف الشرعية كما نرى، هو ما صار يضرب فكرة الشرعية ولا يمت لقيم الدولة بصلة، إذ يكرس حالة اللادولة والميليشيات المضادة لا غير، وتلك غاية الإنقلاب طبعا فهل يعقل أن تكون وسيلة للشرعية أيضاً ؟!