السلام من وجهة نظر القاهرين للمجتمع بسلاحهم، يعني أن يوافق المجتمع على سلطتهم، لكن السلام من وجهة نظر المجتمع المقهور بعنف الاستعلاء، هو أن يتم نزع السلاح من الجميع ليعيش الجميع بحريات وواجبات متساوية وسلام. كذلك السلام من وجهة القاهرين للمجتمع، هو أن يرضخ المجتمع لسلطتهم الضاربة لفكرة الدولة والمواطنة والمقوضة لها، لكن السلام الذي يريده المجتمع المسلوب، هو أن لا يكون لأي قوة خارج نطاق الدولة حق ممارسة السلطة عليه. على أن كل تجارب التاريخ، تؤكد أن السلام قد يأتي في ظل قوة متوازنة لطرفين أنهكهما الصراع، ووصلا لقناعة مشتركة بالتنازلات والسلام. بينما لا يأتي باستمرار الصراع الذي بدون أي أفق ناضج للسلام، وفي النهاية لا ينتصر فيه أي طرف، بل ويغدو استمراره كصراع انتقامي مفتوح، مجرد عبث بليد لا جدوى منه ولا ضمانات مستقبلية بإيقافه.
والحال أن استمرار الإنقلاب يراكم الإشكالات، ويعقدها أكثر.. فالانقلاب هو الذي يجعل اليمنيين في نقطة الصفر فلا خطوات ولا تدابير تمضي قدما سوى تقويض الدولة وشرخ المجتمع.
ولكن للأسف يحتاج إرساء السلام لطاقة روحية هائلة، أما الحرب فتكفي لطخة من القبح لإشعالها.. السلام لا يتوكأ إلا على الأرواح العظيمة فقط.
وبالمقابل فإن الحوثية أصلا قد نشأت بالحرب، وهي لا تفكر سوى بالحرب، كما أنها كل يوم تؤكد على عدم قدرتها في العيش دون الحرب، إلا أنها لا تكتفي بذلك فقط، بل انها تريد من كل اليمن واليمنيين ان يخوضوا معها وعي واحاسيس الحرب كي ترضى عنهم، مع اعتبار الحرب هي الحاجة الدائمة ذات الأولوية للمجتمع وللدولة، وذلك لأن الحوثية لو تموضعت سياسياً خارج الحرب فإنها ستموت كالسمكة -ببساطة-حين تغادر الماء.
ولئن كانت غاية السلام، تجنب تجدد الصراعات المسلحة وإزالة آثار التشظي والتفتت وتمزق النسيج المجتمعي ومختلف ويلات العنف، إلا أنه منظومة متكاملة لا تتجزأ أساسها العدالة الانتقالية واحترام العقد الاجتماعي وصولاً إلى سد الثغرات التي توسعت بسببها الميليشيا وانقسم الجيش كما تغلغل منها الإرهاب كذلك، وليس الاكتفاء بمظاهر الزيف الخارجية لما سيتم تلفيقه على انه السلام مثلاً، لنكتشف سريعاً بأنه لا يمثل أي إضافة تؤهل لنجاة المجتمع والدولة، وبالتالي سرعان ما يؤسس لحرب أخرى أشد فداحة ومقامرة من سابقاتها.
وهكذا فإن ملف السلام أثقل من ملف الحرب، فالسلام يحتاج إلى شجاعة وشفافية ذات مسؤوليات تاريخية كبرى، وقبل كل شيء يتطلب بيئة وقوى مؤمنة بالسلام فعلاً لا قولاً. فمهما استمرت الحرب وشرورها وأوهامها لا تستطيع أي قوى اجتثاث قوى أخرى بالحرب، كما من غير المعقول أن يكون السلام على حساب أي قوى أيضاً؛ بل إن السلام لا يتحقق من دون اتفاق الجميع على أهمية وضرورة تجذير قيمة السلام بأصالة داخل المجتمع أولاً.
ذلك أن السلام الضامن هو الذي لا يدخل سوق الشعارات والمزايدات والمراوغات، وإنما باعتباره الحامل الموضوعي لقيمة السلام التي تنبع من الداخل قبل الخارج مستوعبة حقاً لمعاناة الناس الهائلة كما للمصالح الوطنية الجامعة بعيداً عن الحسابات المأزومة والخاطئة والمغامرة التي لاترى حلولاً سوى في استمرار الحرب. فالحرب ستتوقف يوماً، غير أن السلام الحقيقي في اليمن لن ينجز شيئاً فاعلاً إلا بضمانات واتفاقات تاريخية لوقف الثارات والانتقامات ودعم أسر الضحايا وتعويض المتضررين والإفراج عن المعتقلين والالتفاف حول صيغة جماعية تجعل السلاح غير منفلت، وبيد الدولة، مع إطلاق عملية شاملة وجادة-مدعومة إقليميا ودوليا- لإعادة الإعمار ودعم الاقتصاد المنهار وتفعيل العملية السياسية والإيفاء بالالتزامات العالقة ومكافحة الإرهاب واستئناف المرحلة الإنتقالية.... إلخ.
ثم إن على الجميع مغادرة مخيالهم الانتقامي والاستعلائي والاستحواذي العنفي، واتباع العقلانية النقدية، وعدم التعامل مع الحاضر وفقا للأساطير والخدائع والأوهام، إضافة إلى التفكير الجاد في مسألة المستقبل، وإيجاد حلول موضوعية لمشكلات ومعضلات المجتمع والدولة، بدلا من الاكتفاء بتبرير الأخطاء المميتة التي على رأسها الانقلاب، وعدم استيعاب التحولات المعاصرة، وتأكيد الصوت الواحد وتخوين ما سواه، وتعزيز السلوك الأناني والعنصري الزائف والمقرف، وتوظيف ما يحدث خدمة لمصالح إفسادية وأيديولوجية ومناطقية ومذهبية وسلالية وقبلية تصادر الدولة والمجتمع والآراء والتعدد الديمقراطي وتثبت الانغلاق والعنف والاصطفاء والاكتفاء بمنطق أنا ومن بعدي الطوفان.
بهذا فقط يمكن تحقيق الكثير من المعاني الجوهرية، التي مازالت قوى التغيير الواقعية، تتطلع اليها وبالذات معاني تفعيل جذوة المشروع الوطني، واستعادة روح الوحدة والجمهورية، وكيان الدولة وشرعية التوافق السياسي والعملية الديمقراطية والشراكة اللائقة والاندماج المتفاعل -لصالح اليمنيين- مع الإقليم والعالم فضلاً عن معاني رسوخ إرادة انتشال اليمن من معمعة الانهيارات المتسارعة والمهووسة.
ولعل التحولات المهمة التي حدثت في المجتمع جراء الإنقلاب الأخرق، وتدخل التحالف وبروز المقاومة المتعددة والمنفلتة للأسف، كان من الطبيعي أن تنتج انهيارات وانكشافات عديدة في مراكز الهيمنة التاريخية والجديدة، بكل ما تنطوي عليه من طاقة سلبية استلابية، تدأب على إعاقة تطور المجتمع المتصارع معها، كما تعادي كل قيم ترسيخ فكرة الدولة الحديثة، معتبرة بعنجهية لا مثيل لها أن الشعب مجرد قطيع تابع لا يستطيع شيئاً سوى تفويض أمره لها فقط.
أما الأنكى فهو أن الشعب اصطدم بالعصبوية الهاشمية، التي كشفها تطرف الأيدلوجية الحوثية إذا جاز التعبير، ولهذا كان من الطبيعي أن ينالهم السخط من قبل قطاع واسع من الشعب، في حين أن القراءة الهادئة لواقع مناخات الحرب القائمة، يجب أن تفضي إلى الإيمان بأهمية أن يقوم شيعة الحوثي بلجمه قبل فوات الأوان.
صحيحٌ أن من حق هؤلاء الإيمان بمسألة أهلية البطنين للإمامة مثلاً، غير أن هذه المسألة يجب أن تظل لدى كل فرد يستسيغها ويدور في نطاقها وفق طابعها الوجداني الروحي فقط، لأنه من المحال فرضها كمزاج عقيدي وسلطوي تام ونهائي على أكثرية المواطنين، بينما نحن في زمن الديمقراطية التي لن يقبل الشعب ما دونها أما الانشقاق الذي أحدثته جماعة الحوثي والموالين لها في المجتمع والدولة فبالتأكيد له تبعاته الخطيرة خصوصاً وهو يقوض الهوية الوطنية الجامعة.
ومن هذا المنطلق نفسه طبعاً، لا يجب أن يؤاخذ كل هاشمي، بجريرة الحالة الحوثية لكن قطاعات واسعة من الهاشميين الذين ورطتهم تلك الحالة في الصدام مع المجتمع والدولة، إضافة إلى الإقليم والعالم، ستحتاج حتماً إلى شفافية عميقة مع الذات للإقرار بخطأ النزعة المسيدية ولجوء الجماعة للسلاح كوسيلة للاستيلاء على السلطة، وكذا خطأ عدم تحولها إلى كيان سياسي، وبالتالي خطأ عدم تحيزها إلى حق المواطنة المتساوية لجميع المواطنين.
والمعنى انه ليس أمام الحوثي سوى أن يبادر لحل ميليشياته، والتحول إلى كيان سياسي، إذ ما دون اتباعه لهذا المسعى سيستمر ضد سلام الدولة والمجتمع وضد نفسه أيضاً.
وبالمحصلة تبقى الحاجة ماسة لوقف الحرب، من أجل سد الفراغ الناجم عن انهيار الدولة وازدواجيتها، ومعالجة تدهور الأوضاع الإنسانية واستشراء الإرهاب، ومن ثم الانتقال من المرحلة الخطرة إلى مرحلة جديدة، تتسم بوعي المصالحة لدرء ما هو أخطر، وبما يؤدي إلى تلبية المطالب اليمنية والإقليمية والدولية بحقيقة السلام، عبر رعاية جادة، وأيضاً بما يحول دون إمكانية تكرار المزيد من سيناريوهات الجرائم والتعسفات، عبر تعويض ضحايا هذا النزاع ورد الاعتبار إليهم والبدء الحازم بإجراءات اقتصادية وأمنية وعسكرية ذات إجماع وبادية للعيان، تشمل الإعمار وإعادة التأهيل ومعالجة الآثار الوطنية التي نشأت بالإنصاف وجبر الضرر، نحو التمهيد لانتقال السلطة بطريقة سلمية ودستورية ناضجة وشفافة بكل ما ينطوي عليه المسعى من ترشيد للخطاب السياسي والإعلامي لجميع الأطراف، وفق وثيقة شرف تؤمن بالمسؤولية الواحدة للكل، وبالتالي النقد البناء وعدم التخوين والتأزيم، كما في ظل أهمية رضوخ كافة مكونات السلطة الانتقالية حينها لتغيير عقليتهم المشوهة في الإدارة ومكافحة الفساد بماهما شأن خدمي وقيمي، يجب أن يفضي لحماية مصالح اليمنيين الجامعة، وليس كما كانوا جميعا يستغلون السلطة وامتيازاتها من أجل حماية المصالح الخاصة لجماعاتهم وأحزابهم فقط.