هل يمكننا أن نتخيل فرنسا من دون فولتير، أو نتخيل ألمانيا من دون غوتة، أو روسيا من دون تولستوي أو غوركي؟ هل يمكننا أن نتصور أوروبا من دون مايكل أنجلو، بيكاسو، فاجنر، روسيني، بورودين، وبيزيه أو غيرهم؟ طبعا لا.
كل واحد من هؤلاء هو رمزية لجهد جاد وكبير غيّر أوروبا عميقا. لكن، هل يمكننا أن نتخيل العالم العربي من دون سيد درويش، أم كلثوم، لورداكاش، وطه حسين، والشيخ/ علي عبد الرازق ونجيب محفوظ، عبد الرحمن منيف وفيروز والرحابنة؟ طبعا نعم، ممكن أن نتخيل العالم العربي من دون هذه الأسماء أو غيرها، لأن مجتمع اليوم أزاحها بالفعل لأنها لم تعد تهم ذاكرته في شيء، وامتلأت بأشياء فرضها العصر جزئيا من جهة، وفرضها الذوق العام الذي تم تصنيعه عبر عشرات السنين في غياب كلي للذاكرة الجمعية الحية، والفعل المعادي للثقافة الذي تبنته الأنظمة العربية الشمولية التي جعلت من الثقافة العجلة الخامسة ولا جدوى من ورائها إلا عند الحاجة السياسية.
الفعل الثقافي العربي مضطهد على مستويين كبيرين. الأول مرتبط بالإهمال الكلي للمثقف وتحويله بشكل مستمر إلى ضحية متهمة عليها أن تبرئ ذمتها في كل لحظة.
أقصد المثقف الفاعل والمتحرك اجتماعيا، الذي له وجهة نظره فيما يحيط به، وليس المثقف التبعي، رهين إرادة المؤسسة المهيمنة التي يستجيب لكل خطاباتها عند الحاجة السياسية. لهذا لا نستغرب الاغتيالات التي تطال المثقف المناهض للظلم والاصطفاف إذ هو الجهة الأكثر هشاشة وتعرضا للمتابعات القانونية أكثر من الفاسد ومن سارق المال العام ومهرب المخدرات.
أصبح المثقف العربي، مع الزمن وفي ظل هذه الممارسات، لا يعني الشيء الكثير اجتماعيا وفي الذاكرة العربية الجمعية لأنها لا تحمل الكثير من تاريخها، ولا تربط بين ماضيها وحاضرها، وغير معنية أصلا بثقافتها، ولا حتى بمصيرها الذي يصنعه القائد الحاكم والسياسي وليس المجتمع.
الأدهى من هذا كله. إن هذا المجتمع نفسه أصبح هو من يصفي حساباته مع ماضيه وحاضره بعدم ترك الإيقونة تتكون أو مسخها أو إبادتها. ابن رشد، العالم الجليل، تحول إلى مركز اتهام بدل أن ينظر له كإيقونة حية مستمرة في الزمان والمكان بوصفها سبيلا ثقافيا تغييريا. ماذا جنى ابن رشد، عندما أصبح رمزية ثقافية تغييرية لمسارات أدت إلى الاصطدام بالحائط بينما فتحت المسالك أمام أوروبا في عز عصور الظلام؟ فتمت مطاردته، وأحرقت كتبه.
ماذا فعل طه حسين تجاه أرضه وأمته وثقافته سوى أنه انتبه مبكرا إلى أنه علينا أن نغير منهج التفكير وننتصر لعقل جمدته مراحل الانحطاط المتعاقبة؟ حوكم في النهاية ودفع إلى التراجع عن مشروعه الذي لم يدم طويلا وتم كسره وهزمه، على الرغم من أن المحكمة أنصفته، بدل أن يتراجع ويحاكم سدنة الجهل والضغينة في المؤسسات الاجتماعية والسياسية والدينية. نجيب محفوظ تعرض لعملية اغتيال منظمة من طرف يد عدمية تعرف جيدا هدفها الذي استهدفته. الغرب تعرض لهذه الحروب الشعواء ضد من صنعوا عقله، لكنه حفظ الدرس بإسقاط الدور الكنسي المعطل لأي تطور، ووُضِع الدين في أفقه الفردي والإنساني.
لهذا، يمكننا طبعا أن نتخيل عالمنا العربي الذي يموت اليوم في حروبه التي صنعها أو صُنِعت له، بدون هذه الأسماء المفكرة، هو سعيد كما أريد له وكما شُكِّل بأن يكون بلا ذاكرة ولا أسماء لا تاريخ، ولا مرجعيات. عندما تُقتل في الإنسان الرمزيات المختلفة، ينتهي حسه العميق إلى حالة من اللاجدوى واليأس. عندما احتلت العدمية والإرهاب الكثير من مناحي الحياة اليومية والتربوية والفكرية، في العالم العربي، أصبحت الثقافة عدوا يجب التخلص منه، والمثقف سلطة رمزية يجب أن تسقط وتحل محلها رمزية بديلة أقرب إلى الفكر العدمي الذي يرفض الإنسان وحريته، ويحارب الثقافة الوطنية والمنجز الإنساني بحجة التغريب والتبعية. واضح من خلال هذه الأوضاع، أن الثقافة بمعناها الإنساني لا تشكل اهتماما عربيا خاصا. تكاد تتساوى كل الدول العربية في ظاهرة معاداة الثقافة كفعل حرّ وإنساني عميق، مع استثناءات قليلة لا تؤكد إلا على القاعدة. هذه الحالة تبين الى أي حد وصلت حالة التخلف الثقافي التي يعاني منها العالم العربي.
يكفي أن نضع الخارطة التربية تحت مجهر أعيننا لندرك ان الوضعية البائسة ثقافيا وفكريا. تكاد تكون معممة ومعقدة من حيث الوضع الاعتباري للثقافة. جزء مهم من المجتمع العربي مشلول وغير معني بالثقافات الحية. طبيعي جدا. الأمية تشكل ما بين 60 إلى 80 في المئة، ومرشحة للازدياد والتمدد، في ظل الأوضاع العربية المختلة والحروب الأهلية والبينية ودوامة الإرهاب الذي ضرب العرب والعربي في الصميم. إذا كانت الدولة الوطنية عربيا أو بقاياها، تشعر سابقا أنه من واجبها ضمان التعليم المجاني، لم يعد اليوم ذلك يشكل انشغالا حيويا لها في ظل انهماكها لحل الأزمات الاقتصادية والقلاقل الاجتماعية.
وحتى عندما توفره جزئيا، لا يكون ذلك إلا من أجل المزيد من صناعة التخلف وتهييء المناخات المناسبة للعدمية والإرهاب والبلاغة الفارغة مما يجعل الشهادات الصغيرة أو الكبيرة لا معنى لها علميا. هذه الأساسات الهشة التي تصنع الإنسان القادم، تضيع على العالم العربي فرصة جيل متوازن، وتسرق منه لحظة الخروج من دائرة التخلف والتقدم.
المؤسسات الثقافية ضعيفة، وجزء مهم من الجيل الذي نشأ فيها لا يجد مسالكه وطرق نجاته. المؤسسات العلمية الكبيرة مثل الجامعات، ومراكز البحث وغيرها، معطلة نهائيا. في الترتيبات الجامعية العالمية لا نجد ولا مؤسسة عربية تضاهي عالميا أو تنافس على الأقل، تستحق أن نفتخر بها. يمكننا أن نقول اليوم بعد كل التدمير المجاني الذي لحق بالعالم العربي، إن من يتربص بنا يحضر لنا ثقافة الهزيمة في مخابره ويرضعها لنا منذ الصرخة الأولى من حياتها ليكتمها فينا قبل أن نستسلم في رشدنا إلى حالة الصمت القاتل والمميت. لكن هذه الثقافة، قبل عدوانية الآخر المتربص، توفرها بسخاء، أغلبية الأنظمة العربية التي تعيش في زمن لم يعد موجودا، لشعوبها العربية. لا درس يفيدنا لتغيير المسارات، ففي بعض مدارسنا، يتم اليوم تصنيع شباب المستقبل.
يفتح اليوم التلميذ عينيه، في الكثير من مناطق العالم العربي، على كيفيات تغسيل الميت بدل الانفتاح على الحياة والموسيقى، على مرأى، بل بتواطؤ مع السلط السياسية والاجتماعية. صحيح أن هناك أموالا ضخمة ترصد للتكوين لكن ما قيمة التكوين والثقافي بلا استراتيجية مناسبة تراهن على الوعي والحرية. الإنسان الذي يفكر بشكل غير حر لن يعيد في النهاية إلا إنتاج الهزيمة الثقافية لأن حريته غابت لدرجة النسيان.
*القدس العربي