تحرص الدول أن تولي الاهتمام البالغ بالإنسان كأساس لقيام أي مجتمع، ولهذا الهدف الأول تسخّر كل إمكانياتها الضخمة، فتبدأ بالطفل منذ أيامه الأولى والاهتمام به تنشئة جسدية وأخلاقية تربوية وتعليمية، باعتبار هذا الطفل هو ركيزة الغد الأساسية لهذا المجتمع وذاك البلد.. فالمستقبل يبدأ من الآن، ليكون الغد في أفضل حالاته استقراراً ورخاء ونمو متواصل، وهذا ما نلاحظه في المجتمعات المتقدمة التي بدأت البدايات الصحيحة لبناء الإنسان..
ولعلّي لا أحاول التذكير بهذا النهج الذي اختطته الدولة منذ الاستقلال وحتى ولوجنا في مرحلة الانفتاح المزعوم والانفلات المتعمد الممنهج للقضاء على تلك التجربة.
فانتقل هذا الإنسان من مرحلته الإنسانية وحالته الاجتماعية المستقرة وأهدافه التنموية المتطلعة بوجود دولة تتحمل مسؤولية تخطيط وتنظيم تلك الأهداف لبناء الإنسان إلى مرحلة رفع يدها عن ما هو جوهري وسيادي وتركته لذاته، هذا التنصل والتحول السريع إلى سياسة التخلي التام عن الرابط المباشر بين الدولة والمواطن، وزيادة الهوّة بين الحاكم والمحكوم، حينها بدأ نسيج المجتمع بالتفكك والانتقال إلى مرحلة الاعتماد الذاتي للحصول على أهم أساسيات الحياة بنفسه دون اعتماد أو مساندة أو إشراف من الدولة.
فأخذ يتراجع مفهوم الانتماء للدولة أو الوطن شيئاً فشيئاً والبحث عن البدائل كالالتصاق وتعزيز الانتماء للشكل الأسبق لمراحل تطور البشرية وهي القبيلة أو الجنس والعرق لمزاولة نشاطه الحياتي المجتمعي !
أما ما يسمّى بالدولة – كعنوان سياسي – كان لمجرد تحديد الموقع الجغرافي أو التكتل المخول له أحقية امتلاك كل تضاريس الأرض الطبيعية وما فوقها من مخلوقات وما تحتها من ثروات دون منافس وبقوة السلاح وتلك القبيلة وذلك النهج السياسي الذي لا ينتمي لا للأرض أو الإنسان.
وتلاشت كل الخطط والبرامج لبناء الإنسان كأساس لقيام المجتمع، فانعدم الاهتمام بالطفل والتعليم باعتباره الخطوة الأساس لهذا البناء، وانتشرت تعاليم وتربية القبيلة وامتلاك السلاح والتفاخر به بدلاً من العلم، وغدت الثقافة المجتمعية منذ الصغر تتمحور في تلك الخطوط المؤدية – مع الأيام – إلى العودة لعصور التخلف والجهل التي كانت تدعي الدولة بمحاربتها.
أصبح الطفل يفتح عينيه على قطعة السلاح أو العربة المدرعة، ولا تسمع أذناه سوى طلقات الرصاص والانفجارات، والكل مكفهر في وجهه عبوساً دبوساً. حتى ألعاب الأطفال أصبحت ألعاب حربية عسكرية ونارية.. تحولت أحلامه الطفولية البريئة إلى حب القتال والدمار والمعارك أكثر من حلمه في الدراسة أو أن يصبح مدرساً أو طبيباً أو مهندساً للبناء والإعمار.
الدماء والأشلاء المبعثرة في الطرقات، أو السيارات المحترقة والأبنية من مدارس ومشافي ومعارض وغيرها بسواد احتراقها أصبحت مناظر مألوفة لديه.. فيزداد شوقاً لخوض هذه التجارب الدموية والمغامرات المجنونة كأبطال الأفلام ليكون الأقوى على الجميع !
يا ترى من يتحمل مسؤولية هذه النتيجة الكارثية للمجتمع؟ وأي أجيال قادمة ستأتي للخروج من هذه المأساة نحو غدٍ يملأه السلام والاستقرار وحب التعليم والبناء؟ وأي نهج سنختطه لأولادنا والأجيال القادمة من أجل ذلك؟
كم نتمنّى أن نبدأ من جديد.. ولو بالكلمة والتوجيه والرأي والتوعية والعودة للتفكير في هؤلاء الأطفال والطلاب والشباب لأهمية العودة لطبيعة الإنسان وسمو الإنسانية ونبذ روح الكراهية والبغض والعمل على القضاء بشكل جاد على مظاهر حمل السلاح والتفاخر المتخلف به.
كلمة رجاء لوزارة التربية والتعليم وإداراتها المختلفة: علموا أولادنا حب السلام والتسامح والتطلع لمستقبل أفضل، أعيدوا النظر في مناهجنا الدراسية، وغذوها بقيم السلام والاستقرار والعمل المثمر لغدٍ أفضل، وازرعوا في طلابنا حب الانتماء للوطن والأرض ومعنى الإنسانية، حتى نبدأ من جديد في إعادة الإنسان للطريق الصحيح نحو غدٍ ومستقبل أكثر أمناً واستقراراً وإشراقاً مما نحن فيه!!