عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: [ إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه] " رواه البخاري ومسلم".
وذلك الإطلاع لا يكون إلا لله تعالى، ثم للرسول الكريم في حياته بوحي من الله، فظهر بالنور الإلهي أن هذا المهاجر إلى المدينة لم تكن هجرته لله وليس لرسوله وليس للدين، لتحقيق مصلحة شخصية، وقضاء غرض شخصي، إنما هو محب وعاشق لامرأة مخصوصة معلومة، كان قد تعلق قلبه بها ولا يزال، وهو مستعد ليبذل ويضحي ويجاهد ويقاوم من أكلها بالغالي والرخيص، فهي سبيله وتلك مبتغاه ومرضاته، وقد أوقعته نيته القاصرة في لعاعة من الدنيا آنية فانية، وكان بإمكانه أن يحسن نيته ويرفع من مستوى قصده وغايته وهدفه وستأتيه الدنيا وهي راغمة ويكون قد كسب رضا الله ورسوله، لكنه لم يوفق.
تلك المرأة المهاجرة كانت موفقة نية وعملا وشرعا، هي هاجرة إلى المدينة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقا وحقا، وهو هاجر على نية الإتباع لها والقصد لمحياها، ليبتغي مرضاتها، فضحّى لها، ومن أجلها بكل ما يملك، وهاجر إليها، فكان اسمه بعد هذه الهجرة في التاريخ الإسلامي، بل وعلى مدار تاريخ البشرية من أيامئذ: مهاجر أم قيس؟! وهكذا دخل التاريخ والسيرة وتعلمه الأجيال ولا زالوا؟! وتلك هي شفافية الإسلام وشريعتنا الغراء في إعطاء الأمور مسمياتها، وتسمية الأشياء باصطلاحاتها المناسبة، وذلك هو نظر رسولنا الكريم الأغرّ الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
وكم نحن بحاجة إلى عقد نياتنا وقضاء أعمالنا بما يوفق شرعنا، وكم نحن نحتاج تصحيح مسار قلوبنا وأعمالنا كي تقبل عند ربنا ونبتعد عن مهاجر أم قيس هذا ورموزه في حاضرنا، وكم هم اليوم مهاجرو أم قيس، أو مجاهدو أم قيس، أو مقاومو أم قيس، أو محايدو أم قيس! كم هم أولئك الذين يستحقون هذا اللقب بامتياز، نحن لا نعلمهم ولا أنتم، الله يعلمهم، ثم هم يعلمون أنفسهم بامتياز، ويعرفون طبيعة نياتهم كنا يعرفون أبنائهم وأكثر!.
فكم بيننا مجاهد أبو غلول، ومهاجر أم غنائم، ومجاهد أبو فيّد، ومقاوم أبو نقود، ومقاتل أبو عيش، ومقاتل أبو شُهرة، ومحارب أبو نفاق، ممن لم يصلحوا نياتهم، ولم يصححوا وجهاتهم، ويطهروا مقصدهم، هؤلاء لو عرضوا أنفسهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم في لحظة شفافية قلب، ومحاسبة نفس، ومجاهدة روح، ومراقبة رب! لوقعوا جميعاً تحت جريد النية اللاذعة وسياطها المحرقة، وليس تحت تجريدها لله، وإخلاصها لوجهه الكريم! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال - صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس على نياتهم) "صحيح ابن ماجة والألباني". وفي حديث آخر:" إنما يبعث الناس على نياتهم) " مسلم ". وقال أيضا :( من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالا فله ما نوى)" صحيح أحمد والحاكم". وقال عليه الصلاة والسلام:( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أثبت عليها، حتى اللقمة تجعلها في فيَّ أمرأتك)" متفق عليه".
بك اللهم نستعين، وعليك نتكل، فثبت قلوبنا يا ربنا، وأصلح نياتنا، ونقِّي أعمالنا وأخلصها وصوِّبها لمرضاتك، ووجه وجهاتنا نحوك، واجعل مقاصدنا في رضاك ومرضاتك ورضوانك.