يترقب العالم زيارة الرئيس ترمب للسعودية، في أول زيارة خارجية له، لمعرفة ملامح السياسة الخارجية لإدارته.. والمتوقع أن يجدد لقاءه بالعاهل السعودي حيوية العلاقات الإستراتيجية السعودية الأميركية ويرسخها، وأن ترتب لقاءاته القادة الخليجيين والعرب والمسلمين، العلاقات الأميركية بالعالمين العربي والإسلامي. والمؤكد أن جدول الأعمال سيكون حافلًاً، ويتناول ملفات منطقتنا الملتهبة.
والتركيز هنا ينحصر في ملف أزمة اليمن وتوضيح كيف أنه يشكل فرصة لإدارة ترمب – إن أحسنت استثمارها وساهمت بفاعلية في معالجتها – لتحسين صورة السياسة الخارجية الأميركية وتصويب أدائها في المنطقة والعالم.
فمنطقتنا عانت كثيرًا وطويلًا من إخفاقات الإدارتين الأميركية السابقة، وخاصة إدارة أوباما التي فاقمت أخطاء إدارة بوش (الابن).. فتخاذل سياسة أوباما وعدم وضوحها وتعويلها على التفاوض – من أجل التفاوض وأحيانًا خفيةً عن حلفائها – وعبث تأجيجها للاضطرابات داخل الدول العربية باسم نشر الديمقراطية، أدى إلى اختلال استقرار المنطقة وانحسار نفوذ أميركا لصالح تغلغل إيران وتوسع روسيا، وزعزع الثقة بسياسات أميركا ومصداقيتها وأفقد قوتها الصلبة (والناعمة) التأثير.
وفيما يخص اليمن، ورغم ما أعلنته إدارة أوباما من تأييد للتحالف بقيادة السعودية، فإن سياستها جاءت متذبذبة وغير واضحة في الواقع، كترددها تجاه تسليح التحالف وتحاورها المباشر مع الحوثيين، وهو ما زاد أطماع ميليشيا الحوثي - صالح، وفتح مساحة لمناوراتهم وتعطيل التسوية السياسية اليمنية، وجرهم (ومن ورائهم) إلى تهديد الملاحة الدولية واستهداف بارجة أميركية مباشرة.
وفي ظل التراجع الأميركي والفراغ الاستراتيجي في المنطقة وتصاعد أزماتها وتردي أوضاعها، تصدرت القيادة السعودية لمواجهة التحديات وحماية مصالحها والمصالح العربية والإسلامية وإعادة مسار الاستقرار والتنمية للمنطقة.
وفي الأزمة اليمنية، سعت القيادة السعودية وحلفاؤها إلى تحقيق هدفها الاستراتيجي في إيجاد تسوية سياسية تضمن استقرار الدولة والمجتمع اليمني، ومنذ بداية الأزمة بالتحركات الشعبية ضد نظام صالح في 2011، ثم باستخدام القوة العسكرية – عبر «عاصفة الحزم وإعادة الأمل» في 2015 – كأداة ضرورية (وليس خيارًا) لتدارك تدهور الأوضاع المتسارع والخطير ودحر ميليشيا الحوثي - صالح من السيطرة على عدن والقضاء على الشرعية واختطاف المجتمع والدولة بقوة السلاح. وقد أديرت العمليات العسكرية بحصافة في مسرح بالغ التعقيد، وحققت جُلَ أهدافها، بحيث أصبحت اليوم قوى الشرعية (بدعم التحالف) تتقدم وتتراجع القوى الانقلابية.
لماذا تشكل أزمة اليمن فرصة لإدارة ترمب وللسياسة الخارجية الأميركية؟
بغض النظر عن ترتيب الأزمة اليمنية في سلم الأولويات الأميركية في المنطقة والعالم، فإن مساهمة إدارة ترمب بفاعلية في معالجة ملفها (في هذه المرحلة التي تهيأت فيها ظروف الحل) يشكل مدخلاً جيداً ومبشراً بسياسة خارجية أميركية جديدة وفاعلة. ويمكنها تحقيق ذلك بتأكيد سياسة «واضحة وقوية وثابتة» تدعم جهود التحالف بقيادة السعودية المستمرة في تحقيق تسوية سياسية تعيد الاستقرار للمجتمع والدولة اليمنية وفق أسس القرارات الدولية ذات العلاقة (والمتمثلة في المبادرة الخليجية ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني وقرار مجلس الأمن 2216).
فمن شأن قيادة أميركية حازمة في هذا الإطار – متى ما لمست الأطراف جديتها – تغيير قواعد التفاعل وإيجاد بيئة ملائمة للتسوية السياسية، تضيق فيها أفق المناورات السياسية، وتدفع القوى الإقليمية والدولية إلى التوافق مع الموقف الأميركي، وتدفع كذلك الفرقاء اليمنيين (وخاصة ميليشيا الحوثي - صالح) لإعادة تقييم مواقفها والعودة بجدية إلى طاولة الحوار السياسي. وتتعزز، بالتالي، فرص نجاح المفاوضات والوصول إلى حل سلمي وعملي للأزمة.
وتتضح جدوى هذه السياسة في جانبين رئيسيين:
فمن جانب أول، يحقق النجاح في اليمن مكاسب مهمة لإدارة ترمب: فهو يضفي حيوية وإيجابية للسياسة الخارجية الأميركية تعوضها بعض إخفاقاتها السابقة، وتعيد شيئاً من المصداقية والثقة – التي فقدتها – لدى شعوب وحكومات المنطقة؛ ويحول اليمن من بيئة فراغ سياسي واضطراب حاضنة للإرهاب، إلى بيئة استقرار سياسي طاردة له وحريصة على تأمين خطوط الملاحة الدولية؛ ويقلص نفوذ إيران التخريبي في المنطقة ويستبق أي احتمال لتدخل روسي مستقبلًا والتلاعب بورقة اليمن واستقراره في تجاذبات السياسة الإقليمية والدولية؛ وينئد محاولة ميليشيا عقائدية عسكرية (non-state actor) السيطرة على دولة ومجتمع وسلطته الشرعية بقوة السلاح والإرهاب (وهي سابقة خطيرة قد تتكرر إذا أهملت في اليمن)؛ يدعم العمل وتوجيه الموارد والجهود – بعد حسم ملف اليمن لصالح شعبه وشرعيته – للتعاون في معالجة الأزمات الأخرى في المنطقة.
ومن جانب آخر، فإن دعم إدارة ترمب لجهود التحالف بقيادة السعودية تعد سياسة راشدة وعملية، حيث تتميز بأنها «ممكنة، وغير مكلفة، ومنتجة، وأخلاقية». فهي «ممكنة» لكون ملف أزمة اليمن أيسر نسبيًا من غيره، فرغم ظاهر تعقيدات مشهد الداخل اليمني، فإن جهود التحالف بقيادة السعودية أبقته تحت السيطرة، وأبعدته نسبيًا عن تعقيدات السياسة الإقليمية والدولية؛ وهي «غير مكلفة» (بالنسبة لأميركا) لكون الموارد اللازمة متاحة ووفرتها السعودية ودول التحالف؛ وهي «منتجة» لكون احتمالات النجاح كبيرة وعوائده عالية للسياسة والمصالح الأميركية؛ وهي سياسة «أخلاقية» لكونها تدفع للسلام والاستقرار.
وباختصار، فإن الوقت ملائم جدًا لتأثير أميركي حاسم، وهو الأمر الصواب عمله، فموارد الحل موجودة، وتكاليفه محدودة، ومردوده عظيم، على السياسة والمصالح الأميركية وعلى استقرار المنطقة والعالم.
وتهاون إدارة ترمب عن تأكيد هذه السياسة عواقبه وخيمة، فهو يزيد تعقيدات التسوية السياسية واحتمالات التدخلات الإقليمية والدولية والتشابك مع ملفات الأزمات الإقليمية في سوريا والعراق. وما الملف السوري ببعيد، فتخاذل إدارة أوباما فتح الباب لتغول إيران وحلفائها وتحكم روسيا، وفاقم المأساة الإنسانية، وأصبحت المعالجة أكثر صعوبةً وتكلفة.
وختامًا، يقول وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر «ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تحل أي مشكلة في العالم، لكن من مصلحتها أن تمسك بخيوط المشكلة وتحرك هذه الخيوط بحسب مصلحتها القومية».
نتمنى على الرئيس ترمب وحكماء إدارته إدراك خطأ هذه المقولة التي تجاوزها الزمن، فواقع السياسة الدولية اليوم متشابك وأحداثها متسارعة، ومختلف جوهريًا عن تجربة كيسنجر إبان الحرب الباردة، و«ويصعب فيه مسك الخيوط فضلًا عن التحكم فيها». ومصلحة أميركا تكمن في المساهمة بعقلانية واستراتيجية ثابتة في حل صادق للأزمة اليمنية، لا إدارتها. والتحالف بقيادة السعودية عازم وقادر – بإذن الله وتوفيقه – على النجاح في اليمن، ومن الأجدى لإدارة ترمب أن تكون طرفًا فاعلًا في تسريع تحقيقه.