ترفضني الأرصفة وتكفهر في وجهي المدن، وتصرخ في وجهي الجدران، لا أعلم وجهة أخرى يمكن أن تسد رمقي، رمق إخوتي، أبي القابع في دهاليز الحاجة وكواليس العفة، يجلد حظه العاثر ويندبه ليل نهار، لا أجد لنظرات أمي المحرومة من ابسط الضروريات غير هذه الوجهة؛ وجهة الموت، حين أشرعت في عيني فتحة البندقية لم أتردد لحظة في عناقها وأنا أدرك اني أعانق الموت، اعاقر اختلافا إليه لا يخطئ.
قد تكون آخر أمنياتي أن أسعد أسرتي لحظة واحدة، هذا النخاس الذي يقودني إلى حتفي يعلم يقينا أنه كان ولا يزال سبب حتف أسرتي التي لا تجد ما تسكت به أوار الموت ينهش في الأمعاء، ويصرخ صرخة لا تشبه صرختهم المقيتة في وجه الأوضاع البائسة التي وضعت أسرتي وسائر الأسر في قاع البؤس، إنه موت اختياري ليس إلا، أن اسحب قدمي نحو قاتلي وأنا أعلم أني لا أحمل قضية إلا كوني انسانا صغيرا يحلم بأن يعيش حتى العيش المجرد من كل الاشتراطات.
انا لا أفترش الأرض لأنها ملغومة، لقد تجاوزت هذه الحال بمراحل، لا يملك الوصف أمامها تعبيرا مناسبا، ولا ألتحف السماء لأنه تمطر موتا من نوع آخر، أنا في ظل السوق القهري لا اشعر بأني أكثر من كتلة تتحرك لا اراديا إلى الهلاك الأخير.
لا سوق يسمح لي بدخوله دون هوية القدرة المالية، لا يستقبل أمثالي، يعرفني من خلال ملابسي الرثة، قسمات وجهي المنهكة من ذل الحاجة، ملامحي التي رسمت عليها مآسي سنواتي القليلة المتواضعة.
لا أعرف بوابات المدارس ولا أخالها تعرفني، الحرف عندي هو حرف المترس، والكلمة هي: تقدم أنت تقاتل الدواعش من حرموك حقوقك ويسلبونك طعامك وشرابك، لا أفقه في الدين شيئا غير أن أركان الإسلام خمسة سادسها علي وسابعها "سيدي" عبد الملك وثامنها كن مستعدا للموت دون سؤال.
لا أعرف الكتب لقد اختصرها "السيد" في ملازم مقدسة لا أفك طلسمها ولا أعرف رسمها غير أني أجبر على تقديسها والقتال من أجلها.
المعركة تحقق لي الشيء الكثير والكثير أنا آكل واقتل، لا يهم من أقتل لأني لا أعرف معنى القتل، ولا يعنيني لماذا اقتل لأني لا اجد في قرارة نفسي سببا مقنعا غير مقاتلة شبح الجوع .. امكانياتي في المعركة أكبر من إمكانياتي في أزقة الشوارع، وإن كانت ربما لا تزيد عن أيام، وإن كانت لا تختلف كثيرا عن التباب التي قد أقع فيها جثة لا وزن لها وتشغل حيزا من فراغ يزعج سيدي ملأي له.
لقد كبرت سريعا بمقياس ما احمل من آلة الموت التي تختصر المسافات، ورغبة شديدة في اختصار العناء عبر اختصار الزمن، انا لا أحب الموت لكني أفضل أن أموت ورغيف العيش بيدي - وإن كان جافا- على أن أموت وانا أنتظر رغيف العيش، هناك فرق بين الميتين، على الأقل هذا ما يعتقده قائدي في الجبهة، وإن كنت أعني له شيئا كبيرا ولو لفترة محدودة؛ فأنا درعه الذي يحتمي به، وأنا لغمه الذي يفجر به من صنعهم أعداءـ أنا رصاصته الطائشة في معركة خاسرة وإن كنت أنا الخاسر.
اذكر مرة أمنية أمي في شراء الحلوى وأبي لا يقدر على توفير ماء الشرب أو الوقود، فما بالها بحلم الحلوى، اذكرها وهي تسرد أمانيها العظام في صدر دجاج لا يرفض ان يؤكل، ودندنة في العصرية تأخذها الى عالم لا موت مجاني فيه .. لا يمكن ان يكون جسدي أغلى من أمنية أمي ولا روحي أعظم من رغبتها، سأجعلها تقتات مني وتقتات الأرض من براءتي وتنضج أحلام الطفولة في غياهب المجهول.
لقد ولدت في زمن لا أمتلك فيه لقمة العيش وهذا يعني أني لا أمتلك قراري، القرار اللقمة؛ لا أعرف معنى الطفولة ليست في قاموسي الناشئ، لقد وفر السيد لي معنى مختزلا أن الطفولة هي الموت المبكر في خنادق التغرير ومتارس الخديعة، ويكفيني ذلك معنى.
لا أنسى جاري أحمد ذلك الذي لم أنفض غبار يدي من اللعب معه وهو يصرع أمامي وأمام والديه على أعتاب بيته دون سبب، هو موت؛ لكن التأخير في الموت حتى لحظة التفكير فيه واستيعابه مختلف عن الموت المفاجئ، هذا ما أتوقعه في تصوري المتواضع الذي قطع نموه السيد حين أهداه صيغة حياة جديدة توفر علي الكثير من العناء في انتظاره.
أنا اكثر حظاً من جاري أحمد فموتي يمر عبر الرغيف وعبر البردقان وعبر المخدرات التي أنسى فيها كيف يكون الموت خوفا.. أنا أكثر حظا منه لأنني لا أقدم لأبي وأمي مشهدا مباشرا لموتي، نبأ موتي يخفف عنهم الصدمة، ويمنحهم جواز عبور إلى التسليم بصمت.
لقد بت أدرك ان الطفولة في اليمن مشروع لم يتم، ولا يمكن له أن ينافس مشروع السيد، أعرف أنهما ضدان لا يجتمعا، فلا يمكن للطفولة أن تنبت في اعطاف الجبال ولا الوهاد الملتهبة ولا الموت العاجز في البيوت، لا يمكن للبندقية أن تهب الطفولة حياة.
أصبح يقينا لدي أنني لا أزيد عن كوني وقودا لطموح السيد، مثلما ابي وإخوتي وجيراني وأهل مدينتي وقود لعجزه في إدارة الحياة لهم .. طموح السيد كبير ويحتاج الى كثير من أمثالي، لن يقف طموحه الهادر عند إتلاف عقولنا نحن الأطفال ونحن نشد إلى توابيت اللقمة، بل لابد من النذور التي تنعش خياشيم السيد في طقوسه اليومية للموت، القرابين البكر أكثر ما يثير غريزته، إنه يقتل مرتين، مرة حين يقتل بنا خصمه ومرة حين يقتلنا، نحن قتل مزدوج وسكين ذو حدين لديه.
لا أعرفه .. لكنني اشبعت بأوصافه في ليالي المرابطة على الثكنات؛ إنه في مرتبة أعلى من النبي كما يقولون فهو الحفيد الذي فاق جده، كهفه الذي يأويه سرادق مختوم بالقداسة، وحشمة المعتقد لا يصل إليه أحد ومن بلغه فقد وصل.
من بوابة الكهف يأتي الإغراء بجوازات العبور إلى الجنة ومفاتيح الفردوس التي تبرق لها عيون البعض منا وتطير بها هوسا .. اقل قيمة فيها هو الخلاص وإن لم أقتنع بأنها تعويض أو جزاء.. إنهم لا يمنحونها لأبنائهم فهل يا ترى يحبوننا أكثر من ابنائهم .. لم استطع أن اجدا حلا لهذا الطلسم.
إنهم يستكثرون علينا الموت في الطرقات وفي زوايا البيوت، وأحضان الندب والنحيب، يعرفون النتيجة مسبقا، لكنهم يرجون لنا موتا مفيدا لهم.
انا لا أفكر في المعركة.. لا يجوز التفكير في طقوس السيد القتالية، إنه حرام ولا يطهر صاحبه منه شيء حتى الموت، التفكير آفة الشعوب، وحيلة العاجز، وذريعة الخائف.. ذلك ما يقوله "السيد".. إنه رصيد البلهاء.
أنت تعول أباك هذا ما اسمعه، أنت اليوم رجل، لا أدري لماذا لا يصرحون لي يوما بأني طفل! هل الطفولة محرمة علي، ولماذا يسمح بالطفولة في بلدان أخرى؟
أتساءل أحيانا هل للطفولة في بلاد أخرى معنى غير معنى الموت، غير معنى الأجساد المعلبة سلفا، غير القرابين الطرية، غير الحطب الأخضر الذي يشعل المعركة؟
هل يشبهني طفل آخر في غير وطني، هل له عمر محدود بين دفتي صراع، في اجندة الحاجة للسيد، وهل يوجد لديهم سيد مثلي.. لا أجد جوابا ولا يمكنني أن أفكر أكثر من ذلك؛ أخاف أن يكتشف السيد وقائده وقوعي في اثم التفكير.
لا أريدكم أن تفصحوا عن بوحي، وهواجسي المحرمة معكم؛ فقد أموت قبل موعد المعركة؛ احتاج يوما آخر أتألم فيه، أقدم فيه رغيفا لأمي، دما لفطير السيد.