وأنا أقرأ خبر زوجين يمنيين احتفلا بمرور عام على انقطاع مرتبيهما تذكّرت عبارة شهيرة للكاتب الأميركي (ديل كارنيجي) في كتابه الأشهر (دع القلق وابدأ الحياة)، حين اختار عبارة (اصنع من الليمونة المالحة شرابا حلوا).عنوانا لأحد فصول الكتاب.
غير أني حين دققت في ثنايا الخبر اكتشفت أن هذين الزوجين الجميلين تجاوزا كارنيجي وعبارته الشهيرة بمعادلة خارقة تجعل من صناعة الشراب الحلو من الليمونة المالحة مجرد لعبة صغيرة صغيرة صغيرة... إنهما يصنعان شهد الحياة من دخان الحرب ورائحة البارود..
في أعماق الإنسان اليمني المنفي من ذاته أبدا تتجاور عوالم متباينة من الوجع والسأم والسخط والحزن، وبين هذه الخطوط المظلمة يقبع عالم من الفرح والتفاؤل لا حدَّ له، جعلت هذا الإنسان يمتلك قدرا كبيرا من المرونة تؤهِّله ليعيش مختلف الظروف، وتمكنه من أن يصنع من الليمونة اليابسة وجبة سريعة وفنجان قهوة وقارورة عطر وشمعة يقرأ على ضوئها الخافت أخبار الحرب الدائرة، وكأنه يقرأ قصصا مثيرة عن أليس في بلاد العجائب وعن رحلة السندباد الباحث عن بلده في مزق الخرائط وأرصفة الموانئ.
ثمة إصرار على الحياة لا حدَّ له.. وثمة تعايش مع الوجع كصديق أليف.. وثمة هامش للفرح وسط كل هذه الحرائق.. فتلك إرادة الحياة التي قصرت دونها أخيلة الشعراء وعبقرية المفكرين، وجهود المصلحين.. وانبرى لا ليكتب عنها بل ليجسدها هذا الفيلسوف المغمور المغدور الذي تقف جهاته الأربع ضده.. ومع ذلك ينتصر ما دام للفرح متّسع وللحياة بقية.
وتستغرب حدّ الذهول حين تجد مدنا يمنية تعيش حصار الجوع والبارود، ومع ذلك تُنصب خيام الأعراس، ويُزفُّ العرسان ممسكين باقات الورد ومبتسمين للحياة ومع أنهم يعلمون أّنَّ رصاصة ما أو قذيفة قد تأتي دون دعوة لمباركة عرسهم، وقد تأخذ واحدا منهم أو قد تأخذهم جميعا إلى عالم الموت إلا أنَّ ذلك ليس أمرا ذا بال بالنسبة لهم.. المهم هو مقارعة حالة الموات التي تلدها الحرب أطلالا ومآتم ومقابر بحب الحياة والتمسك بكل تفاصيلها الجميلة فذلك هو سلاحهم ضد أعداء الحياة وحفاري القبور.
وللحب في زمن الكوليرا قصة أخرى.. بطلها الإنسان اليمني.. وكأن ما يدور حوله من عواصف وقواصف ليس كافيا لإثنائه عن جريرة المرح والتفاؤل.. فجاءت الكوليرا دخانا أسود يتخطى الحواجز والحدود، ويدخل المنازل من أبوابها الخلفية ويكسر في طريقه كل المغالق، ثم ينتهب الأرواح يمنة ويسرة، ويذهب إلى مدافن المدن والقرى حيث ينمو العمران، وتتسع دوائر الموت، وتعلن جماعات القتل عن مشاريعها الاستراتيجية. لكن هذا الدخان يندحر مهزوما ويتهاوى ليله لدى أول زغرودة قادمة من مدافن الأحياء القريبة إيذانا بإقبال وليد، أو بمراسم عرس، أو بفرحة نسجتها الأنامل الصغيرة في زوايا مدرسة مقهورة مغدورة.
في تجوالى بمخيمات النازحين حيث يمد البؤس رواقه، ويعشعش الألم والفاقة، وحيث تمتلؤ رفوف النازحين بقصص الفقد وخيبات وطن مذبوح رأيت الفرح متحفّزا يرتسم فوق شفاه نسيت كل شي إلا التفاؤل بغد أجمل، وكأن هؤلاء البسطاء قوافل كفاح تقف على خط النار الأول، تعلن على رؤوس تجار الحروب دون مواربة أو مخاتلة: ستذهبون ونبقى.. فنحن التربة الباقية وأنتم الهشيم الزائل، وفي أعماقنا من الفرح أضعاف ما في خزائنكم من المال الحرام، وغدا حتى تنفتح أبواب المدينة الفاضلة سندخلها بما مُلِّكنا من مفاتح الحب، وستوصد دونكم الأبواب.. فأنتم موتى مدفونون في أجسادكم ولا نشور، ونحن صناع الغد الأجمل بصمتنا الجليل وصبرنا الجميل، وبروح الحياة الدافق فينا دون حد.
وتتملكك الحيرة وأنت ترى الأطفال يلعبون ويمرحون ويتقافزون كالقطط الصغيرة بين أنقاض المنازل، لا هم لهم إلا البحث عن فرحهم المعسول الذي عجزت كل أدوات القتل أن تخمده في أعماق أعماقهم.
ولأنَّ هؤلاء جميعا صناع حياة فإنهم صناع حب، وسينتصر صناع الحب على تجار الحرب، وسيعود هذا الوطن من رحلة نزوحه عبر صناع الحب وحدهم، فهم الأدرى والأعرف بدروب المحبة، وبمسالك الفرح، لأنهم شعلة الله في الأرض ولأنهم كذلك فهيهات للرياح العابرة أن تنال منهم.. هيهات.