رغم أنه صاحب المقولة الشهيرة لطلاّبه - مازحاً - : أنا خِريِّج ( جامع ) ، وانتم خرِّيجين ( جامعة ) ، وليس الذكر كالأنثى .
إلا أن شيخنا القاضي العلامة / محمد بن اسماعيل العمراني حفظه الله ، كان ولا زال أكاديمية شاملة : للشريعة ، والقانون ، والتربية ، والأدب ، واللغة والتاريخ .
وقد شرفت بالجلوس بين يديه لسنوات أخالها - من جمالها وجلالها - ساعات .
إلتزمتُ فيها حلقات الفجر المباركة التي كان يقيمها القاضي في جامع الزبيري .. لأغرف من محيط علمه ما استطاقه وعائي الصغير تفسيراً ، وأصولاً ، وفقهاً ، وحديثاً .
فمن الدرر البهية ، إلى الدراري المضية . إلى نيل الاوطار ، فمنحة الغفار . فسبل السلام ، فالباعث الحثيث ، فأصول خلاّف ، فصحيح البخاري ، فسنن النسائي ، فرياض الصالحين ، وغير ذلك .
وكان طلاب القاضي يأخذون علمه سماعاً منه ، وآخذه قراءة عليه ، بعد أن أكرمني - فضيلته - بإملاء الدروس .
ورغم كِبَر سنه إذ جاوز حينها العقد الثمانين من عمره بسنوات - إلا أنه كان دائماً على الموعد بعد صلاة الفجر يجلس إلى طلابه فيأخذ في تدريس الكتاب الأول . حتى إذا فرغ من شرح حصة اليوم منه . انتقل إلى الكتاب الثاني . فقرأ - أو قرأتُ له وهو يشرح - حتى يفرغ من حصة اليوم منه . ثم يفتح باب الاسئلة المكتوبة متمما بها ما نقص . وموضحا ما غمض . في جو من الفائدة المقرونة بالمتعة . والمعلومة الموصولة بالطُرفة .
ثم نصطحبه إلى بيته وقد أعددتُ له مجموعة من الاسئلة التي أجمعها من قراءاتي الأصولية والفقهية والتاريخية لأجعل منها حصة ثالثة في الطريق من جامع الزبيري إلى بيته .
وكلما لامني زملائي على إجهاد الشيخ ابتسم وقال : اتركوه فسوف أصنّف يوما ما كتاباً اسمِّيه ( الرد على المفتري .. فؤاد الحميري ) - والمفتري بالعامية : من يُحمِّل الناس فوق طاقتهم لكوني أحمِّل الشيخ دروساً فوق دروسه الرسمية بكثرة أسئلتي داخل وخارج الجامع - وكنت احمِل معي دفترين : دفتر للفوائد العلمية ، الفقهية ، والاصولية . ودفتر ثانٍ للقصص ، والطرائف ، والأحداث التاريخية . منتوياً جمع تلك القصص والفوائد في كتاب . سبقني إليه تلميذه الشيخ المصري محمد غنيم .
وقد صادف يوما أن سألته عن شخصية ذكرها في إحدى قصصه كنتُ نسيتها . فغضب مني غصباً شديداً وقال لي : جِينا ندرس أو جينا نحزوي ؟ - أي هل أتينا هنا للعلم أم للقصص ؟ فوضَّحتُ له أنِّي أُثبِتُ الأمرين معاً . وأنَّ لي دفتراً لهذا ، وآخر لذاك . فأخذهما مني ونظر فيهما ودقّق . ثم أخذ يسألني أسئلة فقهية متعددة . وما أن أجبته عن أسئلته حتى انفرجت أساريره ، وابتسم ، ثم أجابني عن شخصية القصة الذي أردتُ .
ولربما كنت أصل به إلى بوابة بيته ولم تكتمل إجابته - بعدُ - على أسئلتي ، فيجلس على الأرض بجوار البوابة ويأمرني بالجلوس . ثم يواصل في الاجابة إلى أن يُكمل .
هذا كله .. وبرنامجٌ طويلٌ في رحلةِ التعليمِ ينتظره يومياً إذ يأتي باص ( جامعة الإيمان ) ليحمله إليها مُدرِّساً حتى قرب الظهر . كما كان له دروسه المعروفة ومؤلفاته في ( المعهد العالي للقضاء ) . قبل أن يعود إلى الجامع ليتلقى الفتاوى الشفهية من الناس قبيل الآذان ويرد عليها مباشرة . آمراً أصحاب الفتاوى المكتوبة بوضعها في محراب الجامع حتى يقرأها جميعا ويجيب عنها . وفي البيت يستقبل نوعاً آخر من الفتاوى وهي فتاوى الهواتف والإذاعات . ليعود إلى الجامع قبيل المغرب فيتلقاه الناس بفتاواهم الشفهية إلى الأذان . ثم يختم يومه المبارك بدرسه الأشهر بين المغرب والعشاء .
ولإن كان علم شيخنا قد استفاض خبره ، وشاع ذكره ، حتى قصده كبار العلماء من ربوع العالم الإسلامي يلتمسون سنده العالي ، أو فقهه الغالي ، فإن أكثر ما أثَّر فيّ خلال تتلمذي على يديه هو سمته وأدبه . وأتذكر أن أحد الطلاب ذكر له : أن شيخاً مصرياً قد خالفه في فتوى رآها . فما كان من الشيخ إلا أن ابتسم وقال : شيخ من مصر وخالفني أنا ؟!! ثم انشد قائلاً
لإن ساءني ذكراك لي بمسبةٍ
لقد سرّني أنّي خطرتُ ببالكَ
ولطالما كان بعض الطلاب من هواة الخلاف بين العلماء ينقلون للشيخ : أنّ فلان قال . وعلاّن أفتى . ليستثيروا الشيخ فيرد . فما يكون من الشيخ إلا أن يسأل هؤلاء الطلاب : ما أنواع الطلاق ؟ ما هو الطلاق السني ؟ وما هو الطلاق البدعي ؟ كيف تكون بدعة الصفة ؟ وما هي بدعة العدد ؟ ثم يقول لهم : اطلبوا العلم فهو أجدى لكم من قال وقالوا ؟
وطيلة جلوسي إليه ما رأيت سائلاً مد يده إلى - شيخنا العمراني - فرده خائباً . حتى أنه ذات يوم فتّش في جيبه فلم يجد ما يعطيه للسائل فنادى فينا قائلاً : من يُسلِّفني خمسين فيعطيها لهذا المسكين ؟
فإذا بالطلاب يتسابقون لإعطاء المسكين أموالهم . فابتسم القاضي قائلاً : واحد بس سَلّفني . والباقي متصدّقين .
ولإن كان بعض طلاب العلم يأبون عليك أن تطلب علماً . ويرون أنك تنازعهم في تركة أبيهم إن فعلت . ويعلنونك جاهلاً ، وحاطب ليل ، وأضل من حمار أهله ، فقط إن خالفتهم في فهمٍ فهموه ، أو رأيٍ رأوه ، فإن شيخنا - على جلالة قدره وسعة علمه - ما كان يستنكف أن يقول لطالبه إن راجعه في مسألة : لعل هذا هو الصحيح .
ولا أزال أتذكر يوم طلبت منه أن يترك فقه العبادات التي يمكن للكثيرين أن يشتغلوا بها ويتفرغ هو - لموسوعيته وثقة الناس به - لفقه النوازل والمستجدات . فقال لي : ما دَرَسناه على أيدي مشايخنا دَرَّسناه . أما النوازل والمستجدات فعليكم أنتم .. وللمه درسناكم ؟!!
وإن كنت نادما على شيء فهو أني لم أستطع زيارته في مرضه الذي اعتراه ، ولم أتمكن من لقائه طيلة السنين الاخيرة . واللهَ أرجو أن يطيل في عمره . وأن يديم عافيته . وأن يوفقني لرؤياه والاعتذار منه على التقصير الذي اقترفته في حقه .
هذا هو ( محمد بن اسماعيل العمراني ) القاضي ، العلامة ، الأصولي ، الفقهية ، المحدث، المسند ، المؤرخ ، الذي تَوَّجَهُ اليمنيون مفتياً للقلوب . قبل أن يُعيِّن مفتياً للديار .
ولو كانت الفتوى بقرار ، لكان القرار فتوى .