;
فؤاد الحميري
فؤاد الحميري

في أكاديمية العمراني 1606

2017-04-12 18:03:36

رغم أنه صاحب المقولة الشهيرة لطلاّبه - مازحاً - : أنا خِريِّج ( جامع ) ، وانتم خرِّيجين ( جامعة ) ، وليس الذكر كالأنثى .
إلا أن شيخنا القاضي العلامة / محمد بن اسماعيل العمراني حفظه الله ، كان ولا زال أكاديمية شاملة : للشريعة ، والقانون ، والتربية ، والأدب ، واللغة والتاريخ .
 وقد شرفت بالجلوس بين يديه لسنوات أخالها - من جمالها وجلالها - ساعات . 
إلتزمتُ فيها حلقات الفجر المباركة التي كان يقيمها القاضي في جامع الزبيري .. لأغرف من محيط علمه ما استطاقه وعائي الصغير تفسيراً ، وأصولاً ، وفقهاً ، وحديثاً .
فمن الدرر البهية ، إلى الدراري المضية . إلى نيل الاوطار ، فمنحة الغفار . فسبل السلام ، فالباعث الحثيث ، فأصول خلاّف ، فصحيح البخاري ، فسنن النسائي ، فرياض الصالحين ، وغير ذلك .
وكان طلاب القاضي يأخذون علمه سماعاً منه ، وآخذه قراءة عليه ، بعد أن أكرمني - فضيلته - بإملاء الدروس .
ورغم كِبَر سنه إذ جاوز حينها العقد الثمانين من عمره بسنوات - إلا أنه كان دائماً على الموعد بعد صلاة الفجر يجلس إلى طلابه فيأخذ في تدريس الكتاب الأول . حتى إذا فرغ من شرح حصة اليوم منه . انتقل إلى الكتاب الثاني . فقرأ - أو قرأتُ له وهو يشرح - حتى يفرغ من حصة اليوم منه . ثم يفتح باب الاسئلة المكتوبة متمما بها ما نقص . وموضحا ما غمض . في جو من الفائدة المقرونة بالمتعة . والمعلومة الموصولة بالطُرفة . 
ثم نصطحبه إلى بيته وقد أعددتُ له مجموعة من الاسئلة التي أجمعها من قراءاتي الأصولية والفقهية والتاريخية لأجعل منها حصة ثالثة في الطريق من جامع الزبيري إلى بيته . 
وكلما لامني زملائي على إجهاد الشيخ ابتسم وقال : اتركوه فسوف أصنّف يوما ما كتاباً اسمِّيه ( الرد على المفتري .. فؤاد الحميري ) - والمفتري بالعامية : من يُحمِّل الناس فوق طاقتهم لكوني أحمِّل الشيخ دروساً فوق دروسه الرسمية بكثرة أسئلتي داخل وخارج الجامع - وكنت احمِل معي دفترين : دفتر للفوائد العلمية ، الفقهية ، والاصولية . ودفتر ثانٍ للقصص ، والطرائف ، والأحداث التاريخية . منتوياً جمع تلك القصص والفوائد في كتاب . سبقني إليه تلميذه الشيخ المصري محمد غنيم .
وقد صادف يوما أن سألته عن شخصية ذكرها في إحدى قصصه كنتُ نسيتها . فغضب مني غصباً شديداً وقال لي : جِينا ندرس أو جينا نحزوي ؟ - أي هل أتينا هنا للعلم أم للقصص ؟ فوضَّحتُ له أنِّي أُثبِتُ الأمرين معاً . وأنَّ لي دفتراً لهذا ، وآخر لذاك . فأخذهما مني ونظر فيهما ودقّق . ثم أخذ يسألني أسئلة فقهية متعددة . وما أن أجبته عن أسئلته حتى انفرجت أساريره ، وابتسم ، ثم أجابني عن شخصية القصة الذي أردتُ . 
ولربما كنت أصل به إلى بوابة بيته ولم تكتمل إجابته - بعدُ - على أسئلتي ، فيجلس على الأرض بجوار البوابة ويأمرني بالجلوس . ثم يواصل في الاجابة إلى أن يُكمل . 
هذا كله .. وبرنامجٌ طويلٌ في رحلةِ التعليمِ ينتظره يومياً إذ يأتي باص ( جامعة الإيمان ) ليحمله إليها مُدرِّساً حتى قرب الظهر . كما كان له دروسه المعروفة ومؤلفاته في ( المعهد العالي للقضاء ) . قبل أن يعود إلى الجامع ليتلقى الفتاوى الشفهية من الناس قبيل الآذان ويرد عليها مباشرة . آمراً أصحاب الفتاوى المكتوبة بوضعها في محراب الجامع حتى يقرأها جميعا ويجيب عنها . وفي البيت يستقبل نوعاً آخر من الفتاوى وهي فتاوى الهواتف والإذاعات . ليعود إلى الجامع قبيل المغرب فيتلقاه الناس بفتاواهم الشفهية إلى الأذان . ثم يختم يومه المبارك بدرسه الأشهر بين المغرب والعشاء .
ولإن كان علم شيخنا قد استفاض خبره ، وشاع ذكره ، حتى قصده كبار العلماء من ربوع العالم الإسلامي يلتمسون سنده العالي ، أو فقهه الغالي ، فإن أكثر ما أثَّر فيّ خلال تتلمذي على يديه هو سمته وأدبه . وأتذكر أن أحد الطلاب ذكر له : أن شيخاً مصرياً قد خالفه في فتوى رآها . فما كان من الشيخ إلا أن ابتسم وقال : شيخ من مصر وخالفني أنا ؟!! ثم انشد قائلاً
 لإن ساءني ذكراك لي بمسبةٍ
 لقد سرّني أنّي خطرتُ ببالكَ
ولطالما كان بعض الطلاب من هواة الخلاف بين العلماء ينقلون للشيخ : أنّ فلان قال . وعلاّن أفتى . ليستثيروا الشيخ فيرد . فما يكون من الشيخ إلا أن يسأل هؤلاء الطلاب : ما أنواع الطلاق ؟ ما هو الطلاق السني ؟ وما هو الطلاق البدعي ؟ كيف تكون بدعة الصفة ؟ وما هي بدعة العدد ؟ ثم يقول لهم : اطلبوا العلم فهو أجدى لكم من قال وقالوا ؟ 
وطيلة جلوسي إليه ما رأيت سائلاً مد يده إلى - شيخنا العمراني - فرده خائباً . حتى أنه ذات يوم فتّش في جيبه فلم يجد ما يعطيه للسائل فنادى فينا قائلاً : من يُسلِّفني خمسين فيعطيها لهذا المسكين ؟ 
فإذا بالطلاب يتسابقون لإعطاء المسكين أموالهم . فابتسم القاضي قائلاً : واحد بس سَلّفني . والباقي متصدّقين .
ولإن كان بعض طلاب العلم يأبون عليك أن تطلب علماً . ويرون أنك تنازعهم في تركة أبيهم إن فعلت . ويعلنونك جاهلاً ، وحاطب ليل ، وأضل من حمار أهله ، فقط إن خالفتهم في فهمٍ فهموه ، أو رأيٍ رأوه ، فإن شيخنا - على جلالة قدره وسعة علمه - ما كان يستنكف أن يقول لطالبه إن راجعه في مسألة : لعل هذا هو الصحيح . 
ولا أزال أتذكر يوم طلبت منه أن يترك فقه العبادات التي يمكن للكثيرين أن يشتغلوا بها ويتفرغ هو - لموسوعيته وثقة الناس به - لفقه النوازل والمستجدات . فقال لي : ما دَرَسناه على أيدي مشايخنا دَرَّسناه . أما النوازل والمستجدات فعليكم أنتم .. وللمه درسناكم ؟!!
وإن كنت نادما على شيء فهو أني لم أستطع زيارته في مرضه الذي اعتراه ، ولم أتمكن من لقائه طيلة السنين الاخيرة . واللهَ أرجو أن يطيل في عمره . وأن يديم عافيته . وأن يوفقني لرؤياه والاعتذار منه على التقصير الذي اقترفته في حقه .
هذا هو ( محمد بن اسماعيل العمراني ) القاضي ، العلامة ، الأصولي ، الفقهية ، المحدث، المسند ، المؤرخ ، الذي تَوَّجَهُ اليمنيون مفتياً للقلوب . قبل أن يُعيِّن مفتياً للديار .
ولو كانت الفتوى بقرار ، لكان القرار فتوى .

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد