عملت منظمة التحرير الفلسطينية بعد حرب عام 1967 على إخراج القضية الفلسطينية من الحضن العربي، وجعلها قضية أهل فلسطين فقط. وقد عبرت عن ذلك عندما غيرت الميثاق القومي الفلسطيني إلى الميثاق الوطني الفلسطيني، وطورت بعد ذلك شعار القرار الوطني الفلسطيني المستقل الذي لم يكن أبدا مستقلا على أية حال. واستمر ت حالة "الفلسطنة" عندما بلغت التطورات التراجعية العربية أوجها في مدريد عام 1991.
لقد قبل العرب حينها الطرح الإسرائيلي لحل للصراع القائم وهو المفاوضات الثنائية المباشرة، وما كانت تعنيه إسرائيل أنها لا تقبل بأي حل مفروض أو من خارج إطار المتحاربين، أو مصاغ من قبل العرب مجتمعين. قالت للعرب بوضوح إن الحل يكمن في تفاوض مباشر مع كل دولة عربية على حدة، ومن شاء أن يتوصل إلى حل عليه أن يذهب إلى طاولة المفاوضات في مقابل إسرائيل. استجاب الرئيس المصري أنور السادات منفردا للشرط الإسرائيلي مبكرا، وزار القدس، وأجرى مفاوضات مباشرة تمخضت عن صلح مع إسرائيل في كامب ديفيد الأميركية.
وافق العرب على الشرط الإسرائيلي بعد هزيمة العراق، ورحلوا إلى مدريد متخلين عن حل جماعي عربي للقضية الفلسطينية. وأكدت منظمة التحرير توجهها القُطري وقبلت أن تكون بوفد مشترك مع الأردن، والذي انفصم بعد ذلك إلى وفدين فاوضا إسرائيل على قاعدة الشرط الإسرائيلي.
وانتهى الأمر أن وقعت المنظمة اتفاق أوسلو، ووقعت الأردن اتفاق وادي عربة دون أن تستفتي أي جهة الشعب حول ما تم الاتفاق عليه. فتح الطرفان الأردني والفلسطيني -ومن قبلهما المصري- الأبواب أمام أنظمة عربية عدة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل وإقامة علاقات تجارية معها، تطورت فيما بعد إلى علاقات أمنية وقد تتطور إلى علاقات تعاونية عسكرية في قادم الأيام.
تعثر المفاوضات
تعثرت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لأسباب عدة على رأسها أن إسرائيل تريد أن تحصل على كل ما تشتهي ولا تريد أن تعطي شيئا في المقابل. كما أن الساحة الفلسطينية بقيت مضطربة، ودبت فيها الخلافات حتى وصلت درجة الاقتتال الداخلي، وما زالت الخصومات الداخلية بين الفلسطينيين قائمة وشديدة. وما أزعج إسرائيل بقوة هو تطور المقاومة الفلسطينية في غزة، والتي أفشلت ثلاث حروب إسرائيلية متتالية. لقد قويت المقاومة الفلسطينية إلى درجة تهميش منظمة التحرير في حسابات الآخرين بخاصة الإسرائيليين الذين يفضلون عادة التوصل إلى حلول مع الأقوياء وليس مع الضعفاء.
لم تعد منظمة التحرير تلك التي كانت، وأصبحت المقاومة هي صاحبة القول الفصل في الميدان، وتيقنت إسرائيل أن أي حل نهائي مع المنظمة لن يكون نهائيا لأن هناك من يرفض أوسلو وكل ما ترتب عليه ولديه الاستعداد للقتال والصمود في الحروب. ومن المعروف أن أهل الغرب ومعهم إسرائيل يفضلون إقامة علاقات مع أصحاب القرار الميدانيين وليس مع الضعفاء، لكن المقاومة ليست على استعداد، على الأقل حتى الآن، أن تقبل شروط القبول بها كطرف تفاوضي. المعنى أن إسرائيل لا ترى الآن أن هناك طرفا فلسطينيا يمكن الاعتماد عليه في الدفاع عن أي حل نهائي يمكن التوصل إليه. ويبدو أن إسرائيل باتت مقتنعة أن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية لم تعد لديهما طاقة على تقديم المزيد من التنازلات. لقد تم استنزافهما تنازليا، ولا بد من إيجاد بديل يتمتع بشجاعة كافية لإكمال الدور.
ونتيجة لأن الطرف الفلسطيني الراغب بالتفاوض غير قادر، والطرف الثاني قادر لكنه غير راغب في التفاوض فإن كل الأطراف المعنية بالمفاوضات معنية بالبحث عن مخرج. بالنسبة لهذه الأطراف أو بعضها، العودة إلى الحل الدولي غير مقبول لأنه يتناقض تماما مع شرط إسرائيل حول المفاوضات الثنائية المباشرة. فضلا عن أن ما يمكن أن تقدمه المحافل الدولية من حلول يفوق بكثير ما يطالب به الفلسطينيون. الحلول الدولية المستندة إلى قرارات دولية تنص على إقامة دولة عربية في فلسطين وفق قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947، وتنص على عودة اللاجئين الفلسطينية، وعلى حماية القدس ورفض الاحتلال.. الخ.
منظمة التحرير قبلت اتفاقية لا تنص على إقامة دولة فلسطينية في نهاية المطاف، ولا تنص على حق العودة. والمنظمة قبلت بقرار مجلس الأمن رقم 242 والذي يُخرج منظمة التحرير من التفاعلات الدولية حول القضية الفلسطينية لأنه ينص على إقامة سلام بين دول، والمنظمة لم تكن دولة في حينه. وفي أوسلو وقعت المنظمة على اتفاق لا ينص على إقامة الدولة، وهذا ينسجم مع الطرح الأمني الإسرائيلي الذي ينص على أنه لا توجد دولة غرب نهر الأردن غير إسرائيل.
العودة إلى المحافل الدولية
ومن ناحية أن إعادة القضية إلى المحافل الدولية ليست مقبولة أو مرغوبا فيها، فإن هناك احتمالا كبيرا للتوجه نحو الحل العربي والذي لا يشمل كل الدول العربية وإنما بعضها. ويبدو أن لهذا التوجه مقدمات مثل طرح فكرة توسيع قطاع غزة على حساب سيناء، وإقامة دولة فلسطينية على أرض مصر، أو ربما في أي مكان عربي آخر مثل منطقة الأنبار العراقية أو الجزيرة السورية.
ومثل هذا الحل سيكون مريحا لإسرائيل والدول الغربية إن استطاعوا إليه سبيلا. مثل هذا الحل يشكل اعترافا من قبل العرب بيهودية دولة إسرائيل، ويفسح المجال أمام إسرائيل لتوسيع الاستيطان وتهويد الضفة الغربية بالطريقة التي تراها مناسبة، وتبقى القدس ومقدساتها مكانا للصلاة وليس موقعا تاريخيا مقدسا يشكل جزءا من الهوية العربية والإسلامية.
ومن الوارد أن تتفق الأطراف على ترتيب معين ييسر على المصلين المسلمين والمسيحيين الدخول الهادئ والميسر إلى الأماكن المقدسة. من المعقول أن يتم إحياء فكرة إقامة جسر يربط بلدة أبو ديس الفلسطينية القريبة من القدس بالأماكن المقدسة تحت إشراف دولي، وأن يُعاد ترتيب شبكة الطرق المؤدية إلى أبو ديس بطريقة تقلل من زمن الرحلة من مختلف المناطق الفلسطينية إلى المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة.
بالنسبة لإسرائيل، الحل العربي مقبول ويمكن أن يكون أكثر ديمومة بخاصة أن الأنظمة العربية موثوق بها إسرائيليا أكثر من مختلف الأطراف الفلسطينية. كما أن الدول الغربية ستكون مرتاحة للتعامل مع هذا الحل أمنيا وماليا. من الناحية الأمنية، ستتكفل البلدان العربية بتوفير القوة الكافية لمكافحة حركات المقاومة، وستقدم ما يلزم ماليا للعناية بالوضع الفلسطيني الجديد. الوضع العربي العام مهيأ لأي حل يصفي القضية الفلسطينية، وعلى الأغلب هناك تفكيري عربي إسرائيلي لاستغلاله قبل أن يتبخر. لقد انشغل العرب كثيرا بحروبهم الداخلية وصراعاتهم القبلية، ولم يعد لديهم من الوقت أو المال للانشغال بقضية فلسطين.
عقبات في الطريق
سيصطدم أهل هذا الحل بأمرين كبيرين وهما حركات المقاومة التي أصبحت ناضجة جدا في كل من لبنان وفلسطين، وبقبول الشعبين المصري والفلسطيني. من غير المتوقع أن يوافق الشعب المصري على مثل هذا الحل ويقدم قطعة من أرض مصر للفلسطينيين إرضاء لإسرائيل. من الممكن أن يقدم شعب مصر عونا جغرافيا لشعب فلسطين كمساعدة من عربي لعربي، لكن هذه الإمكانية تصبح غير واردة إذا كانت على حساب الجغرافيا الفلسطينية.
كما أنه من غير الوارد أن يوافق شعب فلسطين على هذا الحل لأنه يعني التخلي عن الوطن وعن التاريخ وعن رجزء أساسي من الدين. شعب فلسطين لا يتخلى عن وطنه من أجل تسهيل الحياة المعيشية، وإذا كان قد صفق جزء منه لاتفاقية أوسلو فذلك مؤقت وغير قابل للاستمرار والديمومة. سيجد أهل أوسلو أنفسهم في النهاية خارج المعادلة الوطنية الفلسطينية، ويبقى الوطن أهم بكثير من النعم المادية. اعتاد قادة العرب اتخاذ قرارات خطيرة ومصيرية دون اللجوء إلى رأي الشعب. هكذا فعل السادات في كامب ديفيد وعرفات في أوسلو، لكن عملية ترتيب إقامة دولة فلسطينية على أرض مصرية تفوق في خطورتها كل الترتيبات السابقة، ولا بد من اللجوء إلى الاستفتاء للاطلاع على رأي الشعبين الفلسطيني والمصري. وهناك الآن لدى الشعبين قوى قومية وإسلامية قوية ولها انتشار واسع، ولا يمكن أن توافق على مثل هذا الطرح، وستعمل بقوة على التصدي له وللقائمين عليه.
أما من ناحية المقاومة، فإن السؤال التالي يبقى قائما: هل تقبل إسرائيل والدول الغربية حلا يبقي على المقاومتين اللبنانية والفلسطينية. وصلت المقاومتان إلى درجة عالية من التنظيم والتسليح، وهما يزدادان قوة عسكرية مع الزمن، وقد ثبتت قدراتهما على مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية. ومن المعروف أن إسرائيل لا يمكن أن توقع اتفاقا مع عربي ما لم يلتزم هذا العربي بمتطلبات الأمن الإسرائيلي. أي أن المطلوب من البلدان العربية مقاتلة حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي ولجان المقاومة الشعبية.
وإذا كانت إسرائيل نفسها عاجزة عن القضاء على المقاومتين، فهل تستطيع البلدان العربية تنفيذ المهمة؟ وهذا يقودنا إلى التقدير بأن أي حل عربي من هذا القبيل سيؤدي إلى اقتتال عربي عربي من نوع جديد تكون الأنظمة العربية والمقاومة طرفيه. العرب ليسوا بحاجة بتاتا لحروب داخلية وصراعات دموية، وعلى الأنظمة العربية أن تحذر من حلول كهذه حتى لا نقع نحن العرب من جديد في ويلات وأحزان وآلام من أجل منافع الغير.
وليس من المستبعد أن تدخل إيران على الخط وتقرر تقديم الدعم المطلوب لحركات المقاومة وكل المعارضين لمثل هذا الحل لإفساده وإحباطه. وإن هي فعلت ستجد العديد من القوى العربية تدعمها وتبارك خطواتها مما قد يؤدي إلى مزيد من التدهور في العلاقات الرسمية معها.
ولا مانع لدى إسرائيل والدول الغربية عندئذ من توتير الخلافات العربية الإيرانية بالمزيد من أجل إشعال حرب تستنزف الطاقات العربية والإيرانية. وهذا ما يجب على العرب والإيرانيين تجنبه خاصة أن لهم تجربة مريرة في حرب سابقة بين العراق وإيران.