أصدر قاضي المحكمة الجزائية التي يسيطر عليها تحالف المخلوع صالح والحوثيين حكما قضى بإعدام الرئيس هادي وستة من مساعديه، بتهمة الخيانة العظمى والمساس بأمن واستقلالية اليمن.
منطوق الحكم العجيب يعد واحدا من أكثر الأشياء إثارة للسخرية وتعبيرا عن عمق الأزمة اليمنية، وتناقضاتها الفجة، حين تقوم مليشيا بقلب الأمور رأسا على عقب، وانتحال صفة السلطة الشرعية التي يمثلها الرئيس هادي.
الحكم الذي تزامن مع الذكرى الثانية لمحاولة اغتيال الرئيس هادي عندما اصدر المخلوع صالح توجيها بقصف قصر المعاشيق، الذي كان يتواجد فيه هادي بعد تمكنه من الإفلات من قبضة الحوثيين، الذين وضعوه أواخر يناير 2015 تحت الإقامة الجبرية في قصر 22 مايو الذي كان يقيم فيه منذ تعيينه نائبا لصالح لأكثر من خمسة عشر عاما.
ذلك الحكم يعد تجسيدا مباشرا وحقيقيا لمسرحية "الحاكم لصا" التي كتبها الدكتور محمد عباس عام (1989) ويكون فيها الرئيس قوادا، وكل الوزراء مسجلين خطر وتجار مخدرات ومهربين وقتلة لا دين لهم، ولا ضمير ولا خلق ولا علم ولا ثقافة، وكل القضاة لصوص لا يحكمون إلا بالظلم في فجور ليس كمثله فجور، بينما يمسك بأجهزة الأمن والشرطة عصابات يفوق إجرامها أعتى العصابات، وتصبح الصحف والقنوات الإعلامية بيت دعارة لا يكف عن نشر أمراض فقدان المناعة في المجتمع أما الجيش فهو فتوات الحاكم اللص، وعصاه الغليظة لقهر المواطنين وإخضاعهم.
2
لا يمكن فصل ما حدث عقب ذلك الاستهداف عن سياق ما حصل قبله، وبالعودة قليلا للوراء يمكن إدراك أن مخطط إسقاط هادي، بما يمثله من رمزية لأخر مؤسسة أو شخص شرعي، في بلد تآكلت شرعية مؤسساته وانتهت بفعل فاعل، وكان التعطيل ذلك جزء من مخطط المخلوع صالح، لتوريث السلطة، وتمكين أبناءه أكثر من السيطرة على بقية مفاصل البلاد، قبل أن تطيح بأحلامه تلك ثورة الحادي عشر من فبراير، والتي باغتته كثيرا، ولم يفق من حالة الإرباك إلا بسبب حالة الارتباك والمخاوف التي التهمت حتى الأطراف السياسية الأخرى المناوئة له، وأصيبت بالشلل مثله تماما وربما بشكل يفوق ما تعرض له المخلوع، حيث لم يتوقعوا أن يسقط بتلك الطريقة، وبأصوات الشباب وهتافاتهم الصاخبة.
فخلال أشهر قليلة تهاوى صالح ونظامه وانقسم على نفسه، وفقد القدرة على التركيز، وحتى التواصل مع الخارج، وبدأت رحلة الانهيار التي لم تتوقف إلا عبر اللجوء للتسوية السياسية، التي عرفت لاحقا بالمبادرة الخليجية، التي صاغ المخلوع بنودها، وتركها مليئة بالثغرات التي تسمح له بالبقاء في المشهد السياسي، وحصل بموجبها على صك سياسي ببراءته وأتباعه من كافة الجرائم التي ارتكبت خلال فترة تولية حكم البلاد، وهي الجرائم التي لا يمكن مقارنتها بما سيرتكبه لاحقا في حق اليمنيين.
3
أخرجت المبادرة الخليجية المخلوع من الحكم مؤقتا، لكنها لم تنزع منه أدوات الحكم والسلطة، بل على العكس احتفظ بالنصف من كل شيء وأكثر، في الحكومة والجيش، ومؤتمر الحوار، تم ترك الذئب الجريح ينقض على جميع الأطراف، وكان الجميع يتفرج على ذلك الجزء غير المشوق من سيناريو الانتقام، وكانت خطوط اللعبة ترسم بإتقان أكثر، وكانت جسور التواصل بين المخلوع، وفتى الكهف الطامح للعب دور ولي الفقيه في اليمن، تنسج بأيادي حائك السجاد الإيراني.
كانت ممانعة أبناء وأقارب المخلوع والقيادات العسكرية التي تنتمي لجغرافيا المركز المقدس، لقرارات الهيكلة، خطوة هامة وإشارة واضحة على أن أحلام العودة للسلطة مازالت تسكن في رأس التيس المذبوح الذي وصفه هادي منتصف عام 2013، عندما كان يقوم بدور تحريضي ضد هادي في وسائل الإعلام المملوكة له وفي الوحدات العسكرية التي كانت مازالت تدين له بالولاء وترفض الالتحاق بركب الشرعية.
4
في مطلع العام التالي وتحديدا في الرابع من شهر فبراير قبيل أيام قليلة من احتفاء اليمنيين الذكرى الثالثة لثورة فبراير، كتب صالح تهنئة لثمانية من أبناءه الذين تخرجوا من كلية زايد العسكرية في الإمارات، وقال صالح في افتتاحية صحيفة اليمن اليوم (بقدر فرحتي برؤية أبنائي، يتخرجون، مصممون على الأمل أن اليمن ستعود أقوى وأفضل وبكل خير، لكل أبنائها، للتنافس، للعلم، ورفضهم الانجرار لمعارك الشتائم والقبائح والصراعات، وبعدهم عن صراعات مشاريع الفساد والإفساد، الذي يشرد أتباع كل مجموعة بعضهم بعضا)، تكشف هذه الخطوة مدى رفض الرجل فكرة خروجه من السلطة، بل وخطواته الحثيثة لاستعادة الكرسي الذي تربع عليه لعقود طويلة.
ومن المفارقات الأكثر إثارة للاستغراب انه على الرغم من كون كافة أبناء صالح، وأبناء أشقاءه عسكريين، وكانوا قادة لأهم الوحدات العسكرية والأمنية في البلاد، إلا أن أي احد منهم لم يشارك في أي من المعارك التي يخوضها صالح وقواته بأبناء الآخرين، بينما فضل نقل أبنائه إلى بيروت ومسقط وأبو ظبي للعيش بعيدا عن ضجيج الحرب والمواجهات.
5
التيس المذبوح كان يستعد لتقويض سلطة الرئيس هادي والانقضاض على المرحلة الانتقالية، وكانت تحركاته تلك مدعومة برغبات إقليمية عمياء تقوم على أساس أن صالح مازال رجل المرحلة، وحليف تلك القوى، وهو ما يكشف إصراره على تعيين نجله الأكبر سفيرا في الإمارات، حيث تتواجد استثمارات الأسرة، ومن أجل العزف على وتر المخاوف الإماراتية من توجهات حركات الإسلام السياسي، التي صعدت في المنطقة عقب ثورات الربيع العربي، ولا يمكن إغفال الدور الذي لعبه حينها في صنعاء عدد من السفراء بمعية المبعوث الأممي لليمن جمال بنعمر، في تقويض مؤسسات الدولة، وتشجيع مليشيا الحوثي على اقتحام المدن والمعسكرات، ولا أدل على ذلك من مواقف السفراء ودولهم ومجلس الأمن على سقوط عمران، وقبله تهجير سكان دماج ، وتفجير منزل الشيخ الأحمر في خمر ، الذي صور ما حدث على انه صراع بين جماعات مسلحة، والتشديد على التزام المؤسسة العسكرية الحياد، حتى حين اقتحم معسكر اللواء 113 في عمران وتصفية قائده العميد القشيبي والتمثيل بجثته، ونهب كل الأسلحة والتوجه بها إلى صعدة، قبل ان تسقط العاصمة صنعاء تحت أياديهم في وقت لاحق بعدها، والعالم كان يتفرج.
6
عقب سقوط صنعاء وتوقيع اتفاق السلم والشراكة تحت قوة السلاح الحوثي، كان المخلوع صالح بدأ فعليا في تجهيز نفسه للعب دور المخلص، ولهذا الدور كان قد أرسل نجله إلى الرياض لعقد صفقة ناجزه، يعرض خلالها خدماته، وخدمات قوات الحرس الجمهوري كحليف للمملكة، مقابل إسقاط اسمه من قائمة العقوبات الدولية، ودعم تولي نجله السلطة عقب طرد الحوثيين من العاصمة صنعاء، والتخلص من هادي وطي صفحته، لكن تلك الخطة لم تنجح بسبب إفلات هادي من محتجزيه، ونجاته من محاولة اغتياله في الهجوم الذي استهدفه في عدن، وتمكنه من مغادرة عدن بالتزامن مع وصول قوات الحوثي والمخلوع إلى عدن.
7
الطريق إلى الرياض بالنسبة للحوثي لم يعد سالكا، خصوصا مع تلقي الجانب السعودي معلومات عن الدور الكبير الذي لعبه صالح في دفع الحوثيين لإجراء مناورة على الحدود السعودية، وتسليمه ألوية الصواريخ للحوثيين، وتورطه في التواصل مع الإيرانيين بشكل مباشر.
للمرة الأولى في تاريخ العلاقات اليمنية السعودية باتت طهران اقرب إلى صنعاء، وفي حين كانت رحلات الخطوط الجوية السعودية قد توقفت عن الذهاب إلى صنعاء، كانت الخطوط الإيرانية تعلن تدشين خط ملاحي جديد إلى صنعاء وصعدة بمعدل خمسة عشر رحلة أسبوعيا، ولم ينتبه العالم لمعنى ذلك المعدل المرتفع من الرحلات الأسبوعية المباشرة من طهران الى صعده وصنعاء، وكونه مؤشرا على خطر محدق، ومؤشر على حركة نقل كثيفة للسلاح والخبراء وزرعه بالقرب من البوابة الجنوبية للشقيقة الكبرى، ولعل ذلك يكشف عن سر الاستخدام المكثف للصواريخ الحرارية الإيرانية في مختلف جبهات القتال، وتدريب الآلاف من مقاتلي الحوثي على أسلوب حرب العصابات، لزعزعة الاستقرار في المناطق الحدودية، التي كانت المواجهات تدور فيها لأسباب تتعلق بحشد المقاتلين، وتصوير ما يحدث في البلاد على انه جزء من معركة السيادة، التي تم إهدارها من قبل المليشيا منذ حربها الأولى مع الدولة منتصف عام 2004.
بالتزامن مع تلك الأحداث كانت هناك نشوة كبرى قد تمكنت من المسئولين الإيرانيين الذين اكتشفوا فجأة أنهم صاروا في صنعاء التي لم يكونوا يحلموا يوما أن يصلوا إليها، لم يخسر الإيرانيون شيئا مقابل تمكنهم من السيطرة على العاصمة العربية الرابعة، مقارنة بالمليارات التي تم صرفها على حزب الله في بيروت، او دمشق وبغداد، ناهيك عن المقاتلين الذين فقدوهم هناك.
8
في الحادي والعشرين من شهر مارس وقبل خمسة أيام من بدء عمليات التحالف، كان صالح يلتقي حشدا من أنصاره في صنعاء القادمين من محافظة تعز، ولم يستطع الرجل إخفاء سعادته المفرطة، وهو يعلن انتهاء زمن هادي، ويحدد ملامح المرحلة المقبلة، ويضع لهادي خطة الهروب، باختصار شديد كان ينصب نفسه من جديد، ويعيد ضبط المصنع وينهي وضع الطيران، ويعود بقوة لينهي سنوات التواري والمواربة، ويكشف عن سلسلة مكائده، ويتحدث بتعالي واصفا شجاعته وصموده.
9
غير بعيد عن ذلك كانت شاصات الحوثي تسير جنبا إلى جنب مع مدرعات ودبابات الحرس الجمهوري، باتجاه الطريق إلى عدن، بعد إن تم تأمين الطريق وإعلان سيطرة اللجان الشعبية على محافظات ذمار وإب وتعز والحديدة، وكانت عدن هي الوجهة القادمة لإحكام السيطرة والخطوة النهائية قبل الإعلان عن طي زمن هادي، والعودة لعهد عفاش، كانت عدن التي وصلها هادي مطمئنة لوجود حامية في العند وقوات المنطقة العسكرية الرابعة، وكان محافظها حينها عبدالعزيز بن حبتور يشن خطابات نارية يهاجم فيها مليشيا الحوثي وصالح، ويقول إن سقوط عدن تحت سيطرة الحوثيين يعني سقوط اليمن في قبضة إيران، وكان قبيل عاصفة الحزم يقول إن على الأشقاء التدخل لإنقاذ اليمن من سيطرة الحوثيين، كان ذلك هو الظاهر لكن ما تلا ذلك من أحداث كشف عن دور مغاير كان يقوم به حبتور في الخفاء يتعلق بالإعداد للتخلص من الرئيس هادي، وهو ما كشف عنه هادي شخصيا في وقت لاحق حين اتهم بن حبتور بالتنسيق مع صالح والحوثيين، وأشار هادي إلى تورط بن حبتور في استهداف الموكب الوهمي الذي خرج من المعاشيق قبيل مغادرة هادي إلى السعودية عن طريق عمان، بعد ان ابلغه هادي بموعد خروجه.
بن حبتور صورة مصغرة من رجالات دولة هادي الذين استعان بهم، وغالبيتهم كانوا في الأصل من رجال المخلوع المقربين، ويدينوا بالولاء الشخصي له، اليوم بن حبتور يرأس حكومة الانقلاب في صنعاء، التي أصدرت حكما بإعدام هادي، بينما بن حبتور الذي ورد اسمه في عريضة الاتهام الأساسية أصبح رئيسا للحكومة ويتحدث عن العدوان، ناسيا مقابلته التي بثتها قناة العربية في 23 مارس 2015 يطالب فيها السعودية بالتدخل لإنقاذ اليمن من الوقوع في براثن طهران.
10
الجميع يتذكر الرجل الأصلع القصير الذي لم يكن يفارق هادي نهائيا، منذ أن تم تعيينه سكرتيرا صحفيا له منذ توليه مهام نائب رئيس الجمهورية وفضل هادي الاحتفاظ به بعد اختياره لرئاسة الجمهورية في فبراير 2012، يحيى العراسي الذي حاول أن يلعب نفس الدور الذي كان يلعبه عبده بورجي في عهد صالح، الا أنه فشل في ذلك، بعد مغادرة هادي إلى عدن ظهر الرجل أكثر من مرة إلى جوار صالح، في لقاءاته المتلفزة، ليوجه من خلاله عدة رسائل أن جميع تحركات وتصرفات هادي كانت مرصودة، وان كل البيئة التي أحاطت بهادي كانت تتنفس برئة المخلوع صالح.
11
حين غادر هادي اليمن باتجاه مسقط، خرج تحت جنح الليل، خائفا من كل من كانوا حوله، ولا يثق حتى في اقرب المقربين إليه، كان معزولا محاصرا، خذله الجيش الذي فشل في إعادة هيكلته، وخذله المسئولين في دولته الذين كانوا أيضا لا يثقون به، كما كان لا يثق فيهم، وصل إلى مسقط بدون ملابسه واستعار ملابس من التشريفات العمانية، قبل أن ينتقل للرياض ليصلها مرتديا قميصا عمانيا، لتدخل البلاد بعدها مرحلة جديدة، كانت المحاولة الأخيرة لإنقاذ اليمن، ودول الإقليم التي كانت نيران اليمن ستنتقل إليها حال تمكنت المليشيا من إحكام قبضتها التي كانت على وشط الحدوث.
12
بعد قصف الطيران الخاضع لسيطرة المليشيا في صنعاء لقصر المعاشيق، تبادر لأذهان اليمنيين براميل البارود والمجازر التي كان نظام بشار الأسد ربيب طهران يلقيها على معارضيه في المدن السورية، التي أحالها إلى قطعة من الجحيم، بالتزامن مع تلك الحادثة كان الحوثيون وحليفهم صالح يبعثون برسائل تهديد لقبائل مأرب، وتدعوهم لرفع مطارحهم وتم الإشارة إلى أن صبر المليشيا لن يطول، وإنها ستستخدم الطيران إن استدعت الحاجة لذلك في ضرب أبناء مأرب.
13
عشية 26 مارس كان السفير السعودي في واشنطن حينها عادل الجبير الذي تم تعيينه لاحقا وزيرا للخارجية، يعلن عن بدء بلاده وتسع دول أخرى بينها خمس دول خليجية عمليات عسكرية في اليمن تحت مسمى عاصفة الحزم، هدفها استعادة الشرعية في اليمن، ومواجهة التهديدات الحوثية الإيرانية للمملكة، في الوقت ذاته كانت طائرات التحالف قد بدأت في قصف كافة المطارات العسكرية ومخازن الأسلحة، وخلال ساعات قليلة تم تحييد الطيران الحربي الخاضع لسيطرة المليشيا وتدميره كليا، لتبدأ بذلك حرب طويلة الأجل، ومثلما لم يعرف احد بداية تلك العمليات، لا يبدو أن أحداً يعرف نهايتها بعد.