قد تكون الطبيعة قاسية ومجحفة حيال بعضٍ من البشر فتفاجئهم بالزلازل أو الجفاف، بسيول المياه أو مخرجات البراكين، ولكن الضرر الأكبر للإنسان يأتي بالأخص من الإنسان نفسه. هذا ما خلص كثيرون، وقد أشار إليه أخيراً نائب رئيس الوزراء البلجيكي «ألكسندر دي كرو» حين قدَّر أن 80 في المئة من أزمات العالم سببها البشر وليس الكوارث الطبيعية، مشدداً على ضرورة إيجاد حلول للصراعات في دول عدّة، والخلاصة الأخرى أن هذا السياسي أراد تبرير عدم قدرة بلاده على تقديم مساعدات لا أفق ولا نهاية لها. ولا تنفرد بلجيكا بهذا الموقف، إذ لم يخلُ أي مؤتمر لدول مانحة من ملاحظات مماثلة تسأل عن «النتائج» المتوقّعة بعد المساعدة، خصوصاً متى تعلّق الأمر ببلدان تعاني من فشل للدولة، راسخ ومزمن، بل من عدم وجود "دولة".
تعتبر الأمم المتحدة أن الأزمة الإنسانية الراهنة هي الأكبر من نوعها منذ العام 1945، وأكد الأمين العام الجديد أنطونيو غوتيريس ومساعده ستيفن أوبراين، أن هناك حاجة إلى نحو 4,4 مليار دولار حتى يوليو المقبل، لتفادي كارثة إنسانية قد تطال أكثر من 20 مليون شخص يعانون من الفقر والجوع في نيجيريا والصومال وجنوب السودان واليمن، عدا تدهور للأوضاع الإنسانية في بوروندي وأفريقيا الوسطى وتشاد، ولكن غوتيريس قلق للغاية من بطء الإقبال على المساهمة، على رغم أن عوارض المجاعة ظهرت بشدّة في الصومال وجنوب السودان، وتتزايد مؤشراتها في اليمن، وباتت مهدّدة في شمال شرقي نيجيريا. وكان سلفه «بان كي مون» أشار إلى ظاهرة انكماش المساعدات في أوج حملتين واسعتين لإغاثة هايتي (زلزال 2010) وباكستان (زلزال 2015). وقد أعطيت تفسيرات كثيرة لهذه الظاهرة، أبرزها الأزمة الاقتصادية العالمية، ولكنها أيضاً لا تبرّر تجاوز الاعتبارات الإنسانية التي تستوجب مواجهة كوارث طبيعية طارئة، أما الاعتبارات السياسية ففرضت نفسها بعدما تكرّرت الحالات التي تتطلّب مساعدات في سياق نزاعات لا تُعالج لإزالة أسباب مباشرة يمكن أن تفاقم الفقر والجوع.
تعقّد هذا الجدل أخيراً مع تراجع مفاهيم العولمة في الأذهان وانكشاف إعراض روادها الغربيين عنها ما دامت لم تعد تحقّق لهم المكاسب التي يتوقّعونها، وكذلك مع شيوع مزاج عالمي جديد لم يعد يهتزّ لأعمال إبادة بشرية، إذ أحدثت المجازر الصغيرة اعتياداً لدى الرأي العام العالمي جعله في النهاية يتوقّع المجازر الكبيرة، لا يتقبّلها ولا يسوّغها ضمنياً ولكن تفاعله ضدّها راح يتضاءل، أو أن عجز الحكومات والجيوش عن منعها ومعاقبة مرتكبيها بات يطبّعها في وجدانه ويغطّي عجزه، فضلاً عن أنه يعاني مشاكل معيشية ضاعفت أنانيته ولومه لحكوماته على التقصير في حلّها، فهل يلومها إذا تقاعست عن مساعدة الغير. هذه معضلة آخذة في تشديد ضغوطها، لأن العالم المأزوم حتى وهو متمتّع بحدّ معقول من الرفاهية لا يستطيع تفهّم توفّر قادة جنوب السودان على الأسلحة والموارد اللازمة لمواصلة التقاتل حين يكون خمسة ملايين من مواطنيهم على حافة الموت جوعاً، ولا يستطيع تقبّل بقاء الصومال نهباً للعصابات وجماعات الإرهاب ومن دون دولة منذ ما يقرب عقوداً ثلاثة، ولا يستطيع التعايش مع إصرار الحوثيين على تخلّفهم وعلى إغراق اليمن في دوامة نهمهم إلى السلطة.
فيما رفع الاتحاد الأوروبي قيمة مساعداته الإنمائية إلى ما يقرب من نصف مليار يورو، تتعرّض الولايات المتحدة للانتقاد بعد خفض مساعداتها الدورية. وفيما تحاول دول أوروبا الاستجابة بشكل أو بآخر لنداءات المساعدة المستجدّة، تُظهر الولايات المتحدة فتوراً غير معتاد في هذا المجال. ولمرّة قد تكون نادرة اتهم تقرير «سرّي» للأمم المتحدة حكومة جنوب السودان بأنها «المسؤولة الرئيسية» عن المجاعة في أجزاء من البلاد، مشيراً إلى أن رئيسها يعزز قواته مستخدماً مداخيل النفط. وفي ذلك مثال واضح وموثّق لحالات انتشار السلاح مقابل انعدام الغذاء، بل لانعدام الأمن الذي يتيح مهاجمة قوافل الإغاثة ويحول دون إيصال الإغاثة حين تتوفّر. وفي ظلّ «ثقافة» عديمة الرحمة ينشأ شبه تحالف مقدّس بين من يسمّون «أمراء حرب» وحكومات فاسدة تتاجر بالأسلحة وحتى بالمساعدات. ولم تنجح أبداً القرارات الدولية، ولا العقوبات، في حظر التسلّح حين يكون صانعاً ومديماً لأفظع المآسي، وحاجزاً منيعاً أمام أي حلول سلمية وسياسية. ثمة أيضاً مسؤولية للدول الكبرى التي عطّلت ضوابط النظام الدولي وأخلاقياته، فعندما تتغاضى عن التسلّح وتدير النزاعات بدل حلّها لا يمكنها أيضاً التغاضي عن إغاثة الضعفاء، وإلا تصبح شريكة في صنع المجاعات.