إن الدرس الذي قدمته لنا الجالية الفلبينية في الخبر مليء بالعبر والتأمل لمن يبحث عن حياة طبيعية وتفكير سوي مع من حوله.. فقد قامت الجالية الفلبينية رجالا ونساء ومن مختلف المهن والتخصصات صباح الجمعة خلال إجازتهم الأسبوعية بتنظيف كورنيش الخبر وإزالة النفايات والمخلفات.
إذا لم نفهم أو نتفهم ما معنى أن تكون مقيماً، سنبقى في ثقافة الكلام بعيدين عن ثقافة الفعل.. ما قامت به الجالية الفلبينية ليس درساً في النظافة وليس درساً في العمل الجماعي، لكنه كل هذا وأكثر.. إنه درس بضرورة إعادة إنتاج علاقة سوية وطبيعية بين المواطن والمقيم، على أساس الشراكة بالقيم الإيجابية والفائدة المشتركة والحياة الطبيعية.
كثير من المقيمين يمضون ربع أعمارهم أو نصفها في غير بلادهم مكرهين أحياناً بسبب ظروف بلدانهم أو بسبب حاجتهم للعمل وطلب الرزق، لكن هذا لا يعني أن ننظر لهم فقط من هذه الزاوية ونضع بيننا وبينهم حواجز إسمنتية فلا نعرف ثقافتهم ولا نمنحهم الفرصة بمشاركتنا حياتنا الاجتماعية والثقافية.
كنت أُحدث نفسي وأنا في معرض الكتاب قبل يومين، عن سبب عدم مشاركة المقيمين بجناح لإنتاج المقيمين الفكري والثقافي، فهل يعقل أننا نطلب مشاركة دور النشر من الدول البعيدة والقريبة، ونحرم أنفسنا ممن يقيمون بيننا؟ كم هي الفرص الضائعة التي نتسبب بضياعها بسبب استصغارنا لمردودها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي؟ وكم هي الفرص التي تضيع منا بسبب بيروقراطية مؤسساتنا؟ وكم هي الفرص التي نحرم منها أنفسنا فقط لأننا ننطلق من نظرتنا الضيقة للأمور؟.
ملايين المصريين والسوريين واليمنيين والهنود والباكستانيين والفلبينيين بيننا، هل يعقل ألا نجد لهم إنتاجا فكريا يمكن أن يشاركوا به في معرض الرياض أو جدة للكتاب أو أي منبر ثقافي أو أدبي؟.
هل سألنا أنفسنا، لماذا تغيب هذه الملايين من المقيمين أو يغيَّبون عن منابرنا الثقافية والأدبية والفكرية وعن نشاطاتنا الاجتماعية وعن فعالياتنا التجارية والاقتصادية؟ هل يعقل ألا يوجد بين هذه الملايين من يلقي محاضرة عن الأدب الهندي أو الشعر الفلبيني أو يلقي محاضرة عن الفساد في أفريقيا أو الزراعة في الجزائر أو المجتمع المدني في فلسطين أو الصناعة في إندونيسيا والتجارة في ماليزيا أو التعليم في كوريا؟ لماذا نتخيل أن المقيمين بلا خلفيات وبلا اهتمامات وبلا مشاعر وأفكار؟.
لماذا لا تقيم وزارة العمل والتنمية الاجتماعية إدارة ترعى العمل التطوعي الاجتماعي الذي يقدمه المقيمون في الأحياء والمدن التي يسكنونها في بلادنا؟
لماذا لا تؤسس وزارة الشؤون البلدية والقروية وأماناتها إدارة لرعاية النشاطات الخدمية البلدية التطوعية التي يقدمها المقيمون من نظافة الأحياء والمتنزهات وتشجير الشوارع والأودية؟ فلعلنا نتذكر العمل البطولي الذي قام به عدد من المقيمين والمواطنين بإنقاذ من تعرضوا للغرق أثناء أزمة سيول جدة والمدن أخرى؟ ولو كنت مسؤولا في البلديات أو في إمارة الشرقية لكافأت جميع أفراد الجالية الفلبينية الذين قاموا بتنظيف كورنيش الخبر وإماطة النفايات عنه.
لماذا لا تستفيد هيئة الترفيه من الفنون والفلكلور للشعوب المقيمة بيننا في تقديم هذه الفلكلورات والفنون في أحيائنا ومدننا وإضفاء البعد الإنساني على تلك الأحياء والمدن؟
لماذا لا تستفيد هيئة الرياضة من المقيمين بيننا بإقامة مسابقات رياضية بين تلك الجاليات بشكل أسبوعي وخلق جو من التنافس الإيجابي بين تلك الجاليات يمتعهم ويمتع الحضور؟
لماذا لا توجد هيئة تشجع المقيمين بيننا على الانخراط بنشاطاتنا ومنابرنا الثقافية والفكرية وتقديم فنونهم وثقافاتهم وتشجعهم على التعايش مع ثقافتنا وتعيننا على جسر الهوة بيننا وبينهم وتبني المبدع منهم وتكافئ ما يقومون به من عمل تطوعي وخدمات تسهم برفع الوعي البيئي والصحي والتعليمي والمهني للجميع.
لماذا لا توجد وزارة العمل والتنمية الاجتماعية سجلاً لكل مقيم يحسب نشاطاته الاجتماعية والثقافية التطوعية في بلادنا ويكون رصيدا كنقاط تمنحه البطاقة الخضراء ويحصل على مميزات لا يحصل عليها غيره من المقيمين؟
لا أظن أن هناك مواطنا إلا واستفاد من مقيم إما في التعليم أو في الصحة أو في مجالات الحياة الأخرى، بل إن بعض المقيمين قدم تطوعيا لبلادنا ومجتمعاتنا أكثر مما قدمه بعض المواطنين، هؤلاء يحتاجون لوقفة شجاعة منا لنقدر دورهم ونشكر أريحيتهم ونشجعهم على الاستمرار بالعطاء.
إن لدى المقيمين طاقات هائلة وثقافات عظيمة ودورا كبيرا، ولابد من التفكير الجدي بتفعيل مكامن العطاء لديهم لمصلحتنا ومصلحتهم اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.
هكذا نريد أن نفهم المقيمين بيننا وهكذا نريدهم أن يفهمونا، وهكذا نريد أن نكون روادا في رد الجميل وصناعة الفرص بالتعامل الراقي ليس من خلال تصرفات ما يقوم بها الشواذ من المقيمين أو المواطنين، وهكذا نريد بلادنا في العدالة والقيم الرفيعة.