كنتُ أديرُ مكتباً للدعاية والإعلان منذ سنوات مضتْ.. وكان أغلب عملنا خاضع لرغبة الزبون كاختيار العبارات والتسميات أو اختيار اللون والمقاس وغيره.. وكنا نقوم أحياناً – وحسب الطلب – بكتابة أسماء وعبارات على الزجاج الخلفي للسيارات بما يملي علينا هذا الزبون أو ذاك، وفي بعضها من الحكمة ما يجعلنا نحترم صاحب تلك المركبة وفلسفته التي يجهر بها للعالم من خلال تلك الرسالة المختصرة المطبوعة على زجاج سيارته.
المهم.. من أطرف العبارات التي أذهلتني حين أحضر أحدهم سيارة هيلوكس بلون أحمر خليط بين الذهبي والأحمر القاتم جعلها مميزة عن سواها خاصة وأنها جديدة لامعة تلفت النظر، وطلب أن نكتب له عبارة: (ما لأمـَّـك دَخـْـل)!.
صفعتني العبارة عند سماعها، فأحسستُ وكأنه يشتمني، تماسكتُ قواي وطلبتُ منه إعادة ما سمعت، فكرر ما قال آنفاً، فرددت عليه: أهذا الكلام موجـّـه لي شخصياً أم أنني سمعت ذلك بالغلط؟
فأعاد ترتيب كلامه مرة أخرى قائلاً: أنا أريد كتابة هذه العبارة على زجاج هذه السيارة وبأي مقابل تطلبونه!.. هنا أصررت على أن يكتب تلك العبارة في دفتر العمل اليومي وبخط يده حتى يتحمل مسؤولية ما سيكتب ولا يحملنا بعدها أي نتائج مثل طمس العبارة أو تعديلها أو غير ذلك. فكتبها كما طلبت.. ثم قمنا بتنفيذ طلبه هذا على زجاج السيارة ونحن في حالة من التعجب والتكهّن عن السبب وطرافة الموقف الذي جاءت به هذه السيارة وصاحبها الجريء هذا.. وبطبيعة الحال كانت هذه العبارة الفلسفية اختصار شديد للإجابة عن عدد من الأسئلة التي يواجهها، حين فضـّلَ كتابتها على زجاج سيارته لتكون رداً على كل سؤال يُطرَحُ عليه ولا يريد الخوض في نقاشه أو الإجابة عنه..
هذا الموقف الغريب عاد للسطح في ذاكرتي وحمل نفس تلك العبارة حينما ضاق بي الحال وأنا أفكر – كغيري الكثير – عن سبب التدهور المستمر والهبوط المتسارع للأوضاع الإدارية والرسمية وعلى المستوى الإنساني والمعيشي للناس وبشكل مباشر.. فكانت تلك العبارة الساخرة إجابة فورية لكل تساؤلاتي..
أما الأغرب فيها ذلك القرار المستفز الذي أُعلِنَ عن استيراد المشتقات النفطية بشكل عاجل بكمية تكفي للعشرة الأيام القادمة فقط! والذي سيغطي حاجة محطات توليد الكهرباء ومحطات البنزين للسيارات والمركبات داخل المحافظة.. فهل من المعقول أن يكون تفكير الحكومة – بجلالة قدرها – قصيراً لهذا البـُعْـد الذي لا يتعدى العشرة أيام ؟
فلنفترض أن هذا إجراء طارئ ومؤقت.. لكن ما الحلول المستقبلية على المستوى المنظور خلال الفترة القادمة لهذا العام أو لبضعة أعوام قادمة؟
وبعد العشرة أيام المباركة القادمة ماذا سيحدث؟ تكرار الأزمة؟! أم أن القناعة التامة لدى الحكومة أو المختصين قائمة على أن تظل الأوضاع هكذا ويظل المواطن في المناطق المجرجرة (المحررة) يدور في دوامة المعاناة اليومية في مختلف نواحي الحياة ؟ ماذا بعد ذلك ؟ وإلى متى وكيف ولماذا؟
أسئلة عديدة لا جواب عليها سوى عبارة صديقنا الفيلسوف صاحب السيارة الحمراء : (ما لأمك دخل).. فالقيادة تعرف ما يتوجب عليها القيام به، وما لك من دخل في إقحام نفسك يا صديقي طالما إذا كان حتى المواطن العادي قد يأس ودخلَ في دائرة الصمت والصبر والاحتمال لعل وعسى أن ينال الراحة والفوز بالجنة بعد أن يواري جسده الثرى.. فالجنة للصابر والمحتسب في الآخرة، أما حرارة الصيف وسعير الأسعار ومكابدة هذه الأوضاع في الدنيا هي الوسيلة المثلى للدخول إلى الجنة!