قال تعالى: (وممّن حوْلَكم من الأعراب منافقُون ومن أهلِ المدينة مَرَدُوا على النّفاق لا تعْلمهُم نحن نعلمُهْم سنعذّبهُم مرّتين ثم يردّون إلى عذابٍ عَظيم)” التوبة: 101"، وقال تعالى: (لئن لمْ ينتهِ المنافقُون والّذين في قلوبِهم مّرض والمرْجِفون في المدينة لنُغرِينّك بهم ثمّ لا يُجِاورونك فيها إلاّ قلِيلاً)” الأحزاب: 60”.
كان الإرجاف والتخذيل والتثبيط في القديم يتخذ أساليب عدة في أغلبها أنها سِريّة جاسوسية، وقوة خفية مستخفية، والقليل منها يخرج إلى دائرة الضوء، لكن كبارهم كانوا يديرون طوائفهم وأتباعهم بذكاء، ويديرون عصاباتهم وخلاياهم بدهاء، ويستخدمون جيوبهم وتكويناتهم بغاية من الدقة والخفاء ويحسبون أنهم قد أفلحوا ونجحوا في تنفيذ نشاطاتهم ومآربهم بعيداً عن رؤية الآخرين وعلمهم بهم، ولم يحسبوا للوحي والرسول والقرآن أية حساب أو حسبة، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وبما أن حبل الكذب قصير، وحبل النفاق هو أقصر، فقد تولى القرآن الكريم إخراج هذه القوى أو الطوائف أو الفصائل إلى مرحلة الجهر بالسوء، وفضحهم على الملأ، وكشفهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين، وجعل من الغزوات والمواقف الإسلامية الحاسمة مشرحَات مفصلية لمكنوناتهم ودخائلهم وخباياهم وفصائلهم وأخلاقياتهم وسلوكياتهم وتمحيص خلجات عروقهم وخلايا شرياناتهم وما تحدثهم بها أنفسهم وما يجول في خواطرهم من دسائس وخبائث ومكائد وما يبطنون من كفر بالله وآياته.
والآيات التي معنا توحي بنيل المنافقين من رسالة الإسلام ومن الصف الإسلامي ورجالاته بتصرفات نفاقية عَدائية هي أقرب إلى الكفر منها إلى الإيمان، هذه التصرفات هي من الأفعال الشنيعة، من العيار الثقيل، ومن نوع السقف المرتفع، والحجم الكبير والكثيف والمؤثر المؤذي، فالتعبير بالإرجاف يشير إلى ما يشبه الرجفة التي تهز الأرض هزا وترجها رجا كالزلزال الذي يهدم الماديات والمعنويات على ظاهر الأرض على السواء. وتلك هي خطورة الإرجاف في أصول الأمة وثوابتها وأساسياتها وفي معتقدها وفي كتاب ربها وسنة نبيها ورسولها وفي ثقتها بربها.
الأمر الذي كشف أن هذه الطوائف النفاقية والتي تزرع الإرجاف ليست من صغار القوم وحقرائهم، بل يقودها كبار القوم من الكافرين اليهود والنصارى والمشركون كفار العرب والمنافقون، فهذه الأعمال الخبيثة يقودها أناس كبار أذكياء ودهاة خبثاء، يتقدمون الصفوف الأولى، ويتصدرون علية القوم، وفي صدروهم، هم في مواقع عليا، ولهم أتباع وأنصار في مواقع متوسطة سفلى ودنيا، هؤلاء اتخذوا النفاق مهنة ووظيفة، اتخذوا الإيمان والإسلام جُنّة ووقاية لهم ولتنفيذ خططهم في الإرجاف والتثبيط والتخذيل والإرباك في مواجهة الحق والخير والفضيلة، محاربة لله ولرسوله وللمؤمنين.
ومجمل إرجافهم وتخذيلهم وتثبيطهم وتعويقهم متفق بينهم في الحال والمقال والموضوع والهدف والمصير، يخرج من مشكاة واحدة، ويصدر عن غرفة عمليات مشتركة، هي طوائف وجماعات وشخصيات اجتماعية وسياسية وعسكرية وأمنية ومخابراتية تخدم الغرب والشرق والأسياد وتكره الفكرة الإسلامية والفكر الإسلامي والعمل الإسلامي السياسي الناجح المخلص كما يسمونه، وهي من مظاهر النفاق بالمعنى الاصطلاحي الحديث والمعاصر وهو العمل العلني لهم، فكيف إذا كانت بعض هذه الطوائف النفاقية قد أخذت على عاتقها مهمة الدفاع والجهاد في سبيل الله بالانخراط في صفوف المقاومين والمجاهدين حقيقة، فستكون هي أكثر محاربة ومعاداة للنظرية الإسلامية وأتباعها الخُلّص من الداخل وأخطرها، فالمنافقون بطوائفهم المتعددة وأساليبهم المتنوعة أمة منافقة متواصية ذات رسالة واحدة ثابتة في مواجهة الإسلام ورسالته ودعاته وحماته، يؤدون أدوارهم بتفاوت كل حسب حجمه واسمه وصفته ورسمه وموقعه ومهمته المكلف بها في واقعه.
في هذه السمات والمواصفات الثابتة للنفاق والمنافقين، قال تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون)” التوبة: 67”، وقال تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون)” المنافقون: 4".
أستاذ مشارك- كلية الآداب- جامعة تعز
◀ يتبع2