في كتابه "بلدي" يخبرنا رسول حمزاتوف أن الكاتب قد يشبه المسافر، وحين يحل ضيفاً على شعب آخر يتوجب عليه أن يحمل في قلبه أغاني وطنه. جئتكم اليوم بأغنية من وطني، حيث العشب الأخضر يكسو قلوب البشر ويغطي كل الأرض، أغنية عن "إب"، حيث موطن العصافير تحلق كل آن في سلام، تمخر السماء طولاً وعرضاً سعيدة بذلك النقاء، وتلك السماء بديعة المنظر.
تزدان إب بالبهاء كل عام في الفصول الأربعة، من النادر حقاً أن تحفل مدينة ما بالجمال كل الوقت، غير أن الصيف في إب لا مثيل له من الجمال في بقية الفصول. ويمكن الحديث عن جمال "إب" باعتباره ذلك "الجمال غير المتعمد" كما أشار إليه "ميلان كونديرا" في "كائن لا تحتمل خفته"، الجمال الذي خلق على طبيعته ولم تتدخل فيه يد الإنسان.
في البدء، لا أدري حقاً لما سميت إب بهذا الاسم، فقد اختلف القوم -كما هي العادة في كل شيء- حول الاسم، فينسب البعض سبب التسمية باعتبارها مشتقة من شهر "آب" وهو شهر غزير الأمطار في المدينة، ويسرد آخرون أسباباً أخرى عديدة. غير أنه لا يعنيني البتة كل هذا الاختلاف، فجميعهم متفقون على أن جمال "إب" لا يختلف عليه، وهذا يكفي.
بعينين متعبتين أرهقهما الوقوف الطويل أمام شاشات الكمبيوتر، أتأمل الأرض والإنسان في مدينة غادرها الفرح حين داهم الحوثيون المدينة وتوشحت بكل ما لم تعرفه قبل من أحزان.
الأرض مفرطة في الجمال، ستشاهد الجبال، جلها، مكسية باللون الأخضر، إب، المدينة، تحيطها الجبال من كل الاتجاهات، وحين يعتريك التعب انطلق في مسيرة دقائق نحو شلال المشنة واغسل كل ما علق بك من صخب ورتابة أسفل ذلك الشلال.
قبل أن تصل إلى إب، ستحوز كمية مذهلة من الدهشة، إذ سيتوجب عليك أن تسلك طرقاً ملتوية بين الجبال، ذي اتجاه واحد، وستنسى حتماً كل ما سيراودك من أفكار عن خطورة الطريق وتترك لجمال الطبيعة مهمة إغوائك عما سواها.
بيت وحيد تحيط به المدرجات الزراعية الخضراء والأشجار الجميلة من كل جانب، لا يحيط بالبيت شيء سوى اللون الأخضر، أشجار وقمح وجبال، صار الجمال، على ما يبدو، رفيقاً مخلصاً لصاحب هذا البيت استغنى به عن كل جيرانه البشر. الجمال قد يكون رفيقاً جيداً ومخلصاً، في هذه الحياة.
يعانق الضباب والمطر إب على الدوام، مدينة باردة دوماً، ويؤدي المطر في إب وظيفة فريدة أخرى إلى جانب وظيفته الطبيعية، إذ يغسل قلب وأحزان المدينة من كل غبار، يصفي أفئدة الناس ويمنحهم جواً تغمره السعادة، ولن تدرك جمال الأمر إلا حين تقف بعد ساعات المطر في وسط المدرجات الخضراء متأملاً صفاء السماء وبديع المنظر وتملأ رئتيك بهواء نقي قل أن تجد له مثيلاً.
إذا كنت من عشاق الليل، فقد تجد في هدوء إب ما يمنحك أشياء جيدة، لكن على أن أخبرك أن إب مدينة تنام مبكراً، فبعد التاسعة ستشاهد المدينة تغرق في تثائب مبشرة بليل ضجر، هذا عن المدينة، أما الريف في إب فيلملم شتات الناس لحظة غروب الشمس لتبدأ (السمرة) وهي طقس يجتمع الناس فيه للحديث عن كل شيء كسلاح جيد ضد ضجر ليل المدينة.
ثمة ما يعكر صفو كل هذا الجمال، أسواق القات التي تنتشر هنا وهناك في أطراف ووسط المدينة، وتلك العادات المرتبطة بها، تشكل إزعاجاً حقيقياً للعاصمة السياحية لليمن، كطلاء انسكب فجأة في لوحة رسام، غير أن لطخة طلاء منسكب قد تشكل شيئاً من جمال اللوحة، لا يبدو أن الأمر ينطبق على أسواق القات.
هنالك شيء آخر أود أن أبوح به: لا يأبه سكان هذه المدينة لهذا الجمال المفرط، مل الناس من اخضرار وبهاء لا يمنحهم خبزاً وحياة، يمم الناس وجوههم شطر الغربة، مدينة إب إضافة إلى كونها عاصمة الجمال اليمني، فهي مدينة المغتربين الأولى في الجمهورية.
يذهب الإبي باحثاً عن رزق أرغد وحياة أفضل في بلاد الغربة، ويتغنى كل ليلة بصوت أيوب، الفنان اليمني "يا مفارق بلاد النور وعد الفراق حان.. يا غريب الوطن يكفيك غربة وأسفار.. الوفاء دين يالله شرفوا الأهل والدار.. لا تغيبوا كفى غربة ولوعة وأحزان.. اليمن تنتظركم يا حبايب بالأحضان".
يا أيوب، أرأيت بلاد النور وقد استحالت إلى سرادق عزاء؟ حولها صالح والحوثيون إلى عاصمة للكآبة ووطن لأكثر أهل الأرض بؤساً، واستحال الجمال إلى خرائب، واستبدلت الأحضان بلعنات الجماعة الفاشية. أنا يا أيوب هرولت نحو أحضان اليمن فوجدتها قد غرقت بسيل دماء وانشغلت بجراحها عن مواساتي فعدت خائباً أجرجر أذيال الأسى عائداً نحو غربتي الأبدية.
لا بد من إب، زائرين فرحين، غير أنه ضرب من الجنون أن تدعو إنساناً لفعل ذلك في ظل الحرب والخراب، لا تستطيع زيارة إب في ظل هذه الفوضى السياسية والأمنية التي تعج بها بلاد كان الناس يسمونها بـالسعيدة، لكن وبكل تأكيد، فحين تتماثل البلاد للشفاء وتغدو الحالة الأمنية والسياسية مطمئنة، فأنت مدين لنفسك ولـ إب بزيارة.