لا تقل معركة الوعي عن المعارك التي تدور رحاها في الجبهات المختلفة، وليس من المعقول أن تترك هذه المعركة والتي يراد منها كسر الروح اليمنية المقاومة للانقلاب المتدثر بالهاشمية السياسة وبالقبيلة التي باعت نفسها للمخلوع.
وعلى امتداد التاريخ تعرض العقل اليمني للمغالطات التي حرفته أحياناً عن أهدافه، لكنه ظل مشتعلاً بإرثه الحضاري والثقافي التراكمي، برغم التجريف الذي تعرض له، وتعرضت له أيضا الهوية اليمنية، لم يستطع الغزاة اقتلاع هذا العقل من جذوره الحضارية والإنسانية، وظلت الهوية اليمنية متقدة حتى وإن غطاها الرماد، كل الادعاءات الواهية التي ساقتها الهاشمية السياسة بشقيها السني والشيعي وتلبُسها بالاسلاموية والعلمانية والحداثة والقومية واليسار، إلا أنها لم تنحرف عن مسارها اليمني الصحيح.
وعلى سبيل المثال في التاريخ المعاصر وفي ثورة 1948، والتي دعمها الإمام حسن البنا، والذي أرسل الفضيل الورتلاني إلى اليمن لهذه المهمة، بناء على رغبة الثوار -النعمان وصحبه- والذين حاولوا الانتصار ليمنيتهم، ولهويتهم، ولتراثهم، وتاريخهم العظيم، ولو بشكل جزئي مرحلي، حيث يكسرون الكهنوت بابن عمه، والذي يعد أخف منه، مع علمهم بخطورة هذه الخطوة والتي ستستبدل إماماً هاشمياً بآخر من نفس الفصيلة، إلا أن العقل اليمني التجريبي لم يمانع من المحاولة، وهذه المحاولة لم تفشل، لأن جذوة الثورة ظلت مشتعلة حتى 1962، حيث اكتملت الثورة بثورة خالدة غيرت وجه اليمن، لم يمانع اليمنيون من الاستعانة بالعقل والتخطيط الأجنبي، القادم من مصر البنا، وتعاملوا مع الأمر بشكل طبيعي لأنه سيخدم هدفهم العظيم في التخلص من السلالية والكهنوت.
جاء دور مصر عبد الناصر مكملاً لدور البنا، لكنه هذه المرة ليس مجرد تخطيط، بل وحدات جيش قدم لتثبيت الثورة وخلع السلالة، وفضل ناصر على اليمن لا يقدر بثمن، إلا أن الكهنوت السلالي شوه ناصر، ودعمه لليمن، وسموه احتلال، لكن ناصر لم يخيب اليمن ورفع أعلامه وعي الشعب اليمني بأهمية ثورته التي انتصرت لتاريخه وهويته، استفاد الثوار من الزخم القومي وانتصرت الثورة، وبعد النكسة العربية حدثت الانتكاسة اليمنية، والتي تأثرت سلبا بأحداث مصر 1967، فكانت المصالحة التي شرخت الهوية وقسمت السلطة بين الإماميين، وبين الشعب ذي الإرث التاريخي والحضاري، وهناك انكسرت روح سبتمبر العظيم، وتوالت الانكسارات في 1974 و 1978، واستبشر الناس خيرا في 1990، لكن كل ذلك لم ينتج وضوحاً في الرؤية بناء على الهوية، وزاد الطين بلة في 1994 حيث زاد تمزيق هوية الشعب، ولذا لم يكن هناك بد من تغيير جذري بثورة تحيي سبتمبر العظيم، فكانت ثورة 11 فبراير هي من أعادت سبتمبر للواجهة، مع ما شابها من ضعف في الرؤية وفي التأصيل للهوية.
خلال الفترة المشار إليها أعلاه، ظل هدف الشعب في استعادة سلطته على أرضه مع تغيير الظروف والأحداث والعوامل الخارجية هو الثابت الوحيد، فبين عامي 1962 – 2011 تغيرت مواقف المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر بين مدر وجزر، إلى أن انحازت المملكة كلية في مارس 2015 إلى خيار الشعب اليمني في استعادة دولته وإقامتها على أرضه، وهذا هو الحل الوحيد الذي سيضمن أمن المملكة والأمن القومي العربي ولن يسمح للتدخلات الأجنبية في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
وفي كل هذه المراحل ظلت معركة الوعي على أشدها في أيام السلم والحرب، فبالتعليم تم كسر حدة المذهبية، واستبدلت المذهبية بالوسطية منذ تولي القاضي الزبيري وزارة المعارف، وتمدد فكر الوسطية على حساب المذهب العنصري الإقصائي والذي يرى أن الحكم في اليمن يجب أن يظل حصريا في سلالة دخيلة على البلد، فتمت عملية استعادة الوعي ببطء حتى أدرك غالبية الشعب أنه كان مخدوعا.ً
واليوم مازالت معركة الوعي بحاجة إلى المزيد من الجهود والنضال المستمر والموازي للمقاومة في مختلف الجبهات، حتى لا تحدث نفس انتكاسة ثورة 26 سبتمبر في نهاية الستينات من القرن الماضي، لن يثبت الأمن في المناطق المحررة، ولن يأتي الاستقرار بدون رفع وعي الشعب، الرصاصة والكلمة اليوم يتساويان في التصدي لعدو الشعب وعدو الهوية وعدو الدولة، إلا أن الكلمة سيظل تأثيرها أقوى من الرصاصة ما دامت موازية لها في الاتجاه، وإن أوجب الواجبات اليوم هو التصدي لمن يقفون ضد الدولة سواء كانوا من الانقلابين أو من مضللي ومزيفي الوعي، الذين يتدثرون بالسلام وبالحياد، أحيانا يتدثرون بالمقاومة وينخرونها من الداخل بافتعال معارك جانبية لا تخدم الرصاصة التي تطلقها بندقية المقاومة.
لن نقبل بانتقاص المقاومة اليمنية ولن نقبل بمساواتها بالإرهاب الانقلابي الذي دمر البلد، علينا التصدي لحملات التشويه، حتى وإن بدأ التشويه بعيدا باستخدام الفبركات المكشوفة، التصدي له وفضحه أولا بأول هو الطريق الوحيد لكسب معركة الوعي، هذه المعركة يترتب عليها الانتصار في معركة الهوية، ومعركة الهوية يترتب عليها الانتصار لمعركة الدولة.
وقوف المملكة العربية السعودية اليوم مع الشعب اليمني وقيادته السياسية في خندق استعادة الدولة، يدعونا إلى التصدي للحملات الإعلامية التي تنال من المملكة وتظهر على السطح عبر خطباء في بعض مساجد المناطق المحررة -عدن- والتي تزامنت مع حملة الانتقاص من ابن تيمية وفتاويه وفكره، مع أنه غير مقصود لا من قريب ولا من بعيد، ولكن المقصود به المملكة العربية السعودية.. إن المعركة اليوم واحدة في الجبهات وفي الوعي والتنازل عن أحداهما هو خيانة بكل المقاييس، وأثاره ستطال الجميع.