ما حدث في سوريا طيلة السنوات الخمس الماضية يمثل برهانا ساطعا على تصاعد الوقائع المكونة للحرب العالمية الثالثة؛ وهي حرب من طراز عصري ومعرفي جديد تتمثل أولى سماتها في كونها من أطراف متعددة، و على جبهات متعددة لكن قذائفها تنصب على طرف واحد فقط.
كما أنها تستهدف إنجازا واحدا، وهي لا تعلن غايتها صراحة، ولا تعترف بتضافرها أو تآزرها بوضوح مهما تشاركت فيها -من باب التوافق أو التواطؤ-أطراف عديدة تسعى إلى جوهر الهدف نفسه، وتعاني من عقدة الماضي ذاتها.
أما المستهدف من هذه الحرب فهو الجماعة الكبيرة والنهر المتدفق من أتباع دين الإسلام وهم الذين تعارف التاريخ والواقع على وصفهم بما وصفهم به علماؤه من أنهم هم أهل السنة والجماعة أو الإسلام السني (وليس الصفوي ولا الشيعي ولا الوسطي الجميل..).
ومع تعدد واختلاف الجماعات الفكرية داخل هذا الفصيل وتنوع مواقفها حتى في قبولها -أو عدم قبولها- للأسماء التي تسمى بها أو تعرف بها في أدبيات الآخرين، أو تطلق على بعضها في المجادلات العلمية والسياسية (على نحو ما هو موقف الوهابيين الذين يستنكرون تسميتهم بهذا الاسم الذي يرونه أضيق من أن يحيط بهم) فان هناك إجماعا يقينيا على هذا الفهم التاريخاني لمصطلح أهل السنة -و إن كان غير رسمي كذلك- وهو إجماع فقهي وعلمي (بالطبع)، وقد يمتد إلى القول في بساطة بأن الإسلام السني هو ما ليس بالشيعي!
هذا إذن هو الطرف الذي تشن عليه الحرب بوضوح في السلاح وخبث في التصريحات.
أما أبرز ملمح من ملامح هذه الجرائم البشرية التي تدور وتندلع تحت مظلة ما سوف يسميها التاريخ بالحرب العالمية الثالثة فهو أنها تعتمد في مقدمة ما تعتمد عليه على أن تعيد استثمار الأسماء الرابحة في عالم المذاهب والجماعات، وعلى سبيل المثال فإن حزب الله أراد ولا يزال يريد أن يستأثر لنفسه بهذا الاسم المميز وكأنه صفة لسلوكه، وكأنه أيضا احتكار للصفة النبيلة، وكأن الآخرين بالتبعية وبمفهوم المخالفة ليسوا من حزب الله، وإنما هم أقرب لأحزاب الشيطان إن لم يكونوا كذلك بالفعل؛ وقل مثل هذا في تسمية تنظيم الدولة لما استطاع فتحه بدولة الخلافة الإسلامية وكأنه يسد الفراغ الناشئ عن الإلغاء القسري لدولة الخلافة منذ مائة عام.
وقد تطور هذا التوجه المتحزب حتى وصل مرحلة خطرة فيما سمي بقرارات مؤتمر جروزني التي استحوذت لنفسها زورا (وبغطرسة المال) على الحق في تخصيص وصف أهل السنة والجماعة لمذاهب وجماعات دون أخرى.
وفي علوم العصر الذي نعيشه فإن الاسم الذى يطلق على هذه المظلة الانتقائية التي تشمل مثل هذه التوجهات أو التصرفات أو الأفعال هو ببساطة : مظلة نفي الآخر؛ ومن المفارقة و حسن الحظ أن طبيعة عصرنا الذي نعيشه لا تكاد تعترف بأية جدوى لفكرة "نفي الآخر" ولا تكاد تقر عليها أحدا مهما كان نفوذه المادي في الحياة الهادرة.
وفي مقابل هذا فإن تاريخ الحياة العقلية يثبت بكل فخر ما نجحت فيه جماعة المسلمين في الزمن الماضي من تقنين ذكي و تأصيل فقهي تمكن من نفي الإسلام عن بعض المذاهب المستحدثة حتى تلك التي لا تزال تحرص حرصا جريئا على نسبة نفسها جزيئا للإسلام (مثل القاديانية وتجلياتها الأحمدية)
كذلك فقد نجحت جماعة المسلمين في نفي الإسلام عن جماعات قد تبدو بطقوسها وأدبياتها وكأنها مستردفة أو رادفة من روادف الإسلام، رغم انتسابها لأديان أخرى (مثل السامرية التي تنتسب لليهودية لكنها للوهلة الأولى في كثير من مظهرياتها تبدو إسلامية).
ولا يتسع المقام هنا للحديث عن كل هذه الجماعات لكننا نكتفي بذكر أن القاديانية مثلا أصبحت تصنف في دول كثيرة بنصوص دستورية وقانونية على أنها فرقة ضالة، وذلك على الرغم من كل الدعم والتسهيلات الذكية التي قدمتها دولة عظيمة من وزن بريطانيا لهذه الجماعة وأمثالها.
بالمواكبة لهذا حدثت درجة قصوى من درجات الهجوم على الآخر بدعاوى وأطروحات تجاوزت الممكن العقلي والعرف الخلقي انتصارا لتوجهات سلطوية متجنية.
ومن العجيب أن من تصدى لشن معظم هذا الهجوم لم يستند إلى جماعة فقهية أو علمية أو إلى مرجعية كلامية أو فلسفية أو تاريخية وإنما صدرت هذه التعبيرات الهجومية الموغلة في العداء على نحو شخصي حريص على أن ينسبها لقائلها أو المتخرص بها، وكان هذا شبيها تماما بما يحدث من إيداع النقود في حساب شخصي بدلا من حسابات الهيئات كيما تعود الفائدة والثروة على الأشخاص المتطلعين.
ومن الطريف أن مثل هذه التصريحات والتخرصات التي لا تشرف إنسانا عاديا فضلا عن أن يكون عالما بالدين قد لقيت من الاستهجان العام قدرا منع أي معجب بمضمونها من أن يعبرعن هذا الإعجاب ولو من طرف خفي.
كيف يمكن أن يحدث أي نوع من الاحترام إزاء تصريحات من قبيل القول بأن الوزيرين اللذين صنعا الانقلاب رسولان من عند الله، أو قول شيخ الصوفيين بأن الصوفية أسسوا حلفا صوفيا مسيحيا لمواجهة ومحاربة الإسلاميين، أو إزاء القول بأن الاوربيين المعاصرين من أهل الفترة، أو أن تأييد الانقلاب كان أخف الضررين. أو إزاء القول بأن الانقلابي حاكم متغلب، وأن الإخوان المسلمين خوارج، وأنه طوبى لمن قتلهم ومن قتلوه!
في كل هذه الأحوال كانت جماعة المسلمين البسطاء (التي يظنها بعض الساسة غير معنية بالفكر) في حالة عقلية أفضل بكثير من حالة النخبة الضالة المضللة التي تنتسب بيروقراطيا إلى مجتمع العلم بينما هي تستعذب أن تكون خاضعة لهوى متغلب، وفهم محدود، ورؤية قاصرة.
وحتى هذه اللحظة فإن المراقبين لا يزالون في انتظار وقوع الحدث الدرامي الذي يمثل "النزال" الذي يحدث في المعارك بين طرفين على نحو ما تبلور في معركة العلمين أو تجلى في معركة ستالنجراد.. فقد ظل ما يحدث حتى الآن في إطار من الروتينية التي تدفع الطرف المفتري -أو المتكبر بجبروته وتعديه- أن يعاود شن هجومه باطراد وإلحاح فيؤذي أصحاب الأرض المسالمين، وإن كان هو أيضا يصاب ويخسر أثناء الهجوم من النيران الصديقة.
كذلك فإن هذا الطرف المفتري يخسر أيضا بسبب ردود الفعل الحتمية داخل كيانه هو، وذلك من قبيل ما يسمى في العلم بالاستهلاك المفرط للطاقة؛ وهو سلوك يحدث حتى أثناء عمليات الكيمياء الحيوية داخل جسم الإنسان والحيوان.
وبالإضافة لهذا فإن كل صورة من هذه الصور المفترية تحقق الخسائر من خلال أنماط أخرى من قبيل ما ينشأ داخل مجتمعاتها من الإخلال بالتوازنات البيولوجية والكيمائية؛ وهي في حقيقة الأمر آثار ذات كلفة سلبية ضخمة تكاد بلا مبالغة تفوق تكلفة الهزائم الحربية.
بيد أن السياسيين "الدهريين" الذين يعيشون اللحظة ولا يعيشون التاريخ لا يعيرون مثل هذه الحقيقة انتباها كافيا لأنهم غير مشغولين إلا باللحظات التي يعيشونها.
وفي كل هذه الأحوال فإن مكاسب الشعوب تصاعدت حتى بلغت الدرجات الكبيرة من أوليات الحراك الإستراتيجي بدءا مما تحقق لها فجأة وعلانية من معرفتها وكشفها للمنافقين الداخليين الذين طال انخداع كثير من الجماهير بهم، و طالت ثقتهم بما يقولونه إلى أن جاءت اللحظات الفارقة الكاشفة الفارزة، و تجلت بوضوح حقيقة لم يكن المثقف العادي يتصورها، وهي أن المنافقين الذين يحملون أسماء إسلامية أو شبهة انتماء لتيار إسلامي هم أشد خطرا على الإسلام.
ونحن نعود بعد كل تأمل لنكتشف أن الحرب العالمية الثالثة لها صفة غير مسبوقة وهي أنها "حرب متخصصة ودقيقة التخصص والتصويب إلى حد مذهل فهي حرب على "الإسلام السني" وليست حربا على غيره أبدا، ولنكتشف أيضا أن حالات الفزع من هذا الإسلام السني قد وصلت مرحلة من الصرع (ولا نقول الصراع، والفرق كبير جدا) المرضي، وهو صرع مرضي متكرر لم يحدث حتى في ذروة الحروب الصليبية.
والنتيجة الملازمة أو على الأقل المصاحبة لهذه الحالة هي أن علاج الصرع المتكرر أصبح يعطل نمو الأجهزة الارتقائية والوجدانية.
وقد امتدت هذه الحرب إلى مرحلة الأوهام امتدادا طريفا لكنه كان في حقيقته امتدادا رهابيا من طراز خاص وفريد.
وعلى سبيل المثال فإنه يمكن تلخيص ما حدث في الاستفتاء البريطاني حول الخروج من الاتحاد الأوربي وإعطائه وصفا دقيقا يعتمد على الفكرة التي صاغتها قوانين نيوتن عن الحركة، وهكذا فإن ما حدث لم يكن إلا أن مغامرين أقنعوا البريطانيين أن العثمانيين عائدون للتفوق عليهم بالتعاون العثماني مع الألمان كما كان الحال في بعض فترات سابقة، وهكذا فإن المغامرين نجحوا في أن يصيبوا البريطانيين المسنين بالفزع بينما لم يتأثر الشباب أصحاب المستقبل بنفس الدرجة من ردة الفعل.
وبدون أن ندخل في تفصيلات كثيرة تتعلق بتحليل النتائج عمريا وجغرافيا فإن رد الفعل كان هو القائد ولم يكن الفعل نفسه هو ذلك الرائد، كما أن الخوف كان هو الدافع وليس الأمل؛ وأخيرا فقد انتصرت كراهية الآخرين، وانهزم حب الوطن بسبب كراهية الآخرين في نمط غير مسبوق التشخيص من آليات التدافع والتنازع والصراع.
وبعبارة أخرى فإن ما حدث في الاستفتاء البريطاني -وما سيحدث شبيها له في أية انتخابات ألمانية أو أوربية تغزوها النزعات اليمينية) يعكس محصولا ضخما من العنصرية المرضية افتقد إلى أي قدر مواز من الوطنية أو العقلانية أو الحب الحقيقي للذات.
محمد الجوادي
هل تحولت الحرب على الإسلام إلى مرض وبائي؟ 990