للسنة الثالثة يستقبل اليمنيون ذكرى 26 سبتمبر في زلزال الحرب، وهي السنة الثانية لتلقيهم ثلاثة خطابات من زعماء الأطراف.. في 2014 لم يكن الحوثيون شكلوا لجنتهم الثورية العليا السابقة للمجلس السياسي المعين مؤخراً بالتشارك مع خصمهم القديم علي عبدالله صالح.
وفي تلك السنة كانت صدمة اقتحام صنعاء لم تزل عنيفة الدوي طازجة المرارة. وليس هذا لأنهم انقلبوا على مخرجات الحوار الوطني ومارسوا العنف لإسقاط، أو تطويع، السلطة الشرعية المنتخبة من الشعب، وإنما لأن مشروعهم يحمل بين جراثيم كثيرة شهوة الانتقام من ثورة سبتمبر/أيلول، وإصراراً على العودة إلى نظام تم التخلص منه بكفاح مرير وتضحيات باهظة.
قد يرى كثيرون في العالم العربي ومعهم طوائف من الأجيال الجديدة في اليمن أن إطلاق مصطلح الثورة على ما حدث في صنعاء في 26 سبتمبر 1962 ينطوي على مبالغة كبيرة!.
سأقول، إن التقييم الموضوعي يضع ما حدث في 26 سبتمبر في منزلة بين المنزلتين بتعبير واصل بن عطاء، فهي نصف انقلاب ونصف ثورة. نصفها الأول أنها نفذت بعمل عسكري مباغت أقصى آخر الأئمة، ونصفها الثاني أن تنظيم الضباط الأحرار لم يكن عسكرياً صرفاً، إذ ضم في عضويته طلائع من المثقفين المدنيين ارتبط بعضهم بصلات مع تنظيمات حزبية أو اشتغل في تنظيمات نقابية عرفتها الحياة العامة في عدن، وكذلك لأن الشعب تقبل الحدث أحسن القبول، ومنحه أوسع التأييد. زاد إليه أنه حين أعادت فلول الإمامة تنظيم صفوفها وشنت الحرب لاستعادة سلطانها تصدى لها الشعب وقاوم، وتحداها وانتصر. وكان الانخراط في صفوف الحرس الوطني، نواة الجيش الحديث، من مختلف مدن وقرى البلاد تعبيراً عن حماس منقطع النظير أضفى على الحركة الانقلابية من الألوان ما يضعها في مصاف الثورة الشعبية. وبعد ذلك فقد امتد تأثير سبتمبر في الشمال ليذكي روح أكتوبر/تشرين الأول في الجنوب، ونهضت ثورة أجبرت بريطانيا على أن تتخلى عن قاعدتها العسكرية في عدن لكي تنسحب بعد ذلك من شرق السويس.
لكن الأمور لا تقاس دائماً بقوة الحدث بل بمدى تأثيره. والمؤكد أن أحداً لا يمكنه أن يتخيل عمق التحولات الناتجة عن إشراقات سبتمبر. ولا أتحدث عن دك أسوار الجهل واقتحام ميادين العصر، وإنما أحيل إلى صورة في التاريخ تظهر اليمنيين حفاة يأتزرون من خواصرهم بينما تلفح الشمس ظهورهم والصدور والجوانب، وقد كان القلة من علية القوم ينتعلون الأحذية.
عندما قامت ثورة سبتمبر كان العشرات فقط قد حصلوا على الشهادة الجامعية أكثرهم ابتعث من عدن، وكانت نسبة الأمية تتجاوز 80%.
لا متسع لتصوير وضع إنساني يشهد على أن ما أنجز بعد 26 سبتمبر في اليمن ثورة بأبلغ المعاني. لهذا ما انفك اليمنيون يحيون ذكراها، وما زال القائمون على أمورهم والمتوثبون يوقدون المشاعل تحية من القلب أو نفاقاً بالغرض. وحتى 1977 كان الاحتفاء ينم عن صدق وإن اختلفت الرؤية بين عبدالله السلال وعبد الرحمن الإرياني وإبراهيم الحمدي، وبعد ذلك راحت المزايدة تتغلب على المشاعر والعواطف دون أن تنسحب عن الذين حكموا في عدن.
في ذكراها الرابعة والخمسين تعيد سبتمبر إحياء نفسها على ألسنة رئيس الدولة وأمراء الحرب. وكان الرئيس واضحاً شديد التركيز في يقينه بتصميم الشعب اليمني على هزيمة الهوى بإعادة حكم الكهنوت الذي خيم على اليمن قروناً طويلة.
هادي شدد على ثقته بتصدي الشعب لتحالف الكهنوت والعكفة مزاوجاً بين جبروت الإمام وتفاهة العكفة (العسكر) المستخدمين في إذلال الرعية.
هادي ركز على إدانة الخصم دون أن يتحدث عن مشروعه في دولة اتحادية تحقق العدالة في توزيع السلطة والثورة كما جاء في حديث له قريب مع قناة الجزيرة.
وعلى نقيضه أمعن الرئيس السابق في الهجاء فاستغرق طويلاً وشرد كثيراً وأعاد وردد. كذلك فقد نسب لهادي من الرزايا والآثام ما كان يعفيه عن تعيينه وزيراً ونائباً للرئيس.
ولمن يقدر على تحمل قراءة الخطب الثلاث أن يتأمل ويوازن، ثم يتعجب من شأن الذين يتنازعون الهيام باليمن والغرام بخرابها.
الخليج الإماراتية
حسن العديني
اليمن بين خُطَب ثلاث 1040