هناك رؤساء للجامعات الفلسطينية سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة، ومنهم كبار السن والمفروض أنهم أصحاب خبرة وعلم، وأصحاب شخصيات مميزة وقادرة على إدارة الجامعات وفق المعايير المهنية والعلمية، ووفق متطلبات المجتمع الهادفة إلى الرقي به ونقله نوعيا نحو التحول الاجتماعي.
هم ليسوا مراهقين من الناحية العمرية، لكنهم مراهقون من زاوية تقبلهم للعبودية وعشقهم لإذلال الناس خاصة من أصحاب المؤهلات العلمية العليا. لكن من المهم الانتباه إلى أن منصب رئيس الجامعة في فلسطين منصب سياسي بالدرجة الأولى وليس منصبا وطنيا، أو بالأحرى هو منصب فصائلي وليس منصبا فلسطينيا. أي أن كل فصيل مهيمن يبحث عن رئيس جامعة وفق المسطرة أو المعايير الموضوعة مسبقا والمتناسبة مع مصلحة الفصيل وليس مصلحة الوطن والشعب. جامعة بير زيت تشكل استثناء، وتنطبق عليها معايير الاختيار الديمقراطي أكثر مما تنطبق على أي مؤسسة أخرى في الأرض المحتلة 1967.
على أية حال، أغلب هؤلاء الذين يُنصّبون رؤساء للجامعات لا يديرون الجامعات بصورة فعلية، والمدراء الفعليون هم طلبة فصائليون يكادون لا يفقهون شيئا في الإدارة والأصول العلمية، أو قد يكون المدير الفعلي من خارج أسوار الجامعة لكنه فصائلي ينتمي للفصيل الذي يتحكم بالجامعة، ويحرك قيادات الطلبة عن بعد.
من التجربة، يشكل الفصيل المتنفذ سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة ظهر رئيس الجامعة، وهو الذي يحميه ويقدم له الدعم في مختلف نشاطاته وإجراءاته، ولكن بشرط الالتزام بما يريده الفصيل من إجراءات. الفصيل مثلا مهتم باحتكار البعثات الدراسية، وعلى رئيس الجامعة أن يطور التكتيكات المختلفة ليتجاوز المستحقين ويقدم المنح الدراسية لأصحاب الفصيل. والفصيل معني أيضا بتعيين المنتمين إليه في الجامعة سواء في الوظائف الأكاديمية أو الإدارية. والفصيل أيضا مهتم بالتضييق على مدرسين بعينهم وملاحقتهم إداريا عسى أن يملوا فيتركوا الجامعة والبلاد عموما، وربما يهتم الفصيل بترقية بعض المدرسين أكاديميا، فيبحث رئيس الجامعة أو مجلس الأمناء عن وسائل لإضفاء شرعية على ترقية من لا يستحق.
هناك كثيرون في جامعات الأرض المحتلة عام 1967 بمن فيهم رؤساء جامعات حازوا على ترقيات أكاديمية وهم لا يستحقون أبدا، ولا توجد لديهم الأبحاث الكافية أو المهارات التدريسية البارزة. حتى أن بعض رؤساء الجامعات حصلوا على ترقيات على قاعدة أوراق شبه بحثية في مؤتمرات، ودون أن يستوفوا الشروط العلمية للبحث العلمي. وبعض المدرسين والمدرسات حصلوا على ترقيات دون أن تكون لديهم أبحاث علمية، وربما نشروا أبحاثا أجراها طلابهم.
إنني شاهد على كيف كان يستنجد بعض رؤساء الجامعات بطلاب الفصيل الذي عينه رئيسا ليدافعوا عن إجراءات ظالمة قام بها، وألحق بسببها ظلما بالآخرين. وكان يحصل أن يقوم بعضهم بالاستنجاد بزعران مسلحين من خارج أسوار الجامعة لكي يرعب خصومه أو منافسيه أو غير الراضين عن أفعاله.
وبهذا الاستنجاد سهل رئيس الجامعة دخول الأسلحة إلى الحرم الجامعي، وتحول السلاح إلى ظاهرة مرئية ترعب الأكاديميين والإداريين على حد سواء. ووصل الحد أن قتل شاب في أحد الأيام في حرم جامعي فلسطيني بسبب خلافات فصائلية. لقد ترتب على هذا الاستنجاد عدد من النتائج منها:
1- بدأ ينظر البلطجية والزعران إلى أنفسهم أنهم أصحاب قوة ونفوذ وبإمكانهم تمرير ما يرغبون أن يروا في الجامعة من إجراءات وتعليمات إدارية.
2- أصبح لهؤلاء الحق بالدخول بالسلاح على راحتهم دون أن يجدوا معارضة من أمن الجامعة.
3- حولوا الحرم الجامعي إلى مسرح لمختلف أنواع الزعران الذين يرغبون بدخول الحرم الجامعي لا لسبب سوى ممارسة بعض السلوكيات الشائنة.
4- شكلوا مصدر إرهاب للمدرسين والإداريين، وكان بإمكانهم إنجاح من يريدون من الطلاب.
5- صار من السهل التلاعب بعلامات الطلاب والطالبات لأن المدرسين يخشون الزعران ويخافون الأذى الذي يمكن أن يترتب على عدم خضوعهم لطلبات تغيير العلامات.
6- بعض العلامات أصبح يمكن تغييرها خارج أوقات الدوام الرسمي. وحتى أن الغياب كان يتم شطبه أحيانا لأن هؤلاء قلما يحضرون المحاضرات. وقد حصل معي هذا في إحدى الجامعات إذ تم شطب طالب من قائمة الطلاب في نهاية الفصل. وعند استفساري عن عدم ظهور اسم الطالب في القائمة لأرصد له علامة راسب قيل لي إن رئيس الجامعة قد شطب اسمه لأنه محروم من المادة بسبب الغياب وذلك ليجنبه الطرد من الجامعة بسبب معدله التراكمي المنخفض.
ولا يختلف وضع مجالس الأمناء عن وضع رئيس الجامعة. تعيينهم لا يتم وفق معايير مهنية وعلمية، وإنما وفق معايير سياسية. الشخص يفهم بمهام مجلس الأمناء إذا كان من الموالين للمتنفذين وجاهل إذا لم يكن من عشاق العبودية. وفي بعض الأحيان يعبر مجلس الأمناء عن مصالح قبلية بالدرجة الأولى. أي تكون الجامعة فاعلة تحت راية عائلة أو قبيلة وليس بالضرورة تحت راية فصيل. لكن القبيلة لا تستطيع الاستمرار إلا إذا أعطت الولاء للفصيل المتنفذ. في هذه الحالة تتجاذب الجامعة مصلحتان: مصلحة القبيلة ومصلحة الفصيل، وعلى الجامعة أن تكون البقرة الحلوب للمصلحتين.
مجالس الأمناء تتلاعب أحيانا بالترقيات، وتتدخل أحيانا بالتعيينات، وأحيانا أخرى بالعلامات. وفي كثير من الحالات هي بعيدة عن الأمانة. وأوجه حديثي لأغلب مجالس أمناء جامعاتنا في الضفة الغربية وغزة، وأنا على قدر ما أقول ولدي من المعلومات الموثقة ما يدعم حديثي.
العديد من أعضاء مجالس الأمناء لا يتمتعون بخبرة علمية أو أكاديمية، ولا يعرفون جيدا عن كيفية إدارة الجامعات. بعضهم يحصل على عضويته لأنه ابن فصيل معين، وآخرون يصبحون أعضاء لأنهم أثرياء أو ينتمون إلى عائلة متنفذة. ووفق قراءتي للسير الذاتية لبعضهم وجدت أن عددا منهم لا علاقة له بالجامعات أو الأصول السلوكية العلمية والأكاديمية.
هناك نقابة عاملة في كل جامعة من جامعات الضفة الغربية وربما باستثناء جامعة أمنية لا تؤمن حتى الآن بالعمل النقابي. في عدد من الجامعات، النقابة ليست نقابة عاملين على الرغم من اسمها، بل هي نقابة رئيس الجامعة. رئيس الجامعة يسيطر في الغالب على النقابة، وهو الذي يشارك بقوة بتحديد قائمة الأعضاء، فيشطب من يشاء ويبقي من يشاء، وهو يتدخل في العاملين وكيفية تصويتهم، وتصل المسألة إلى تهديد الموظف الذي يريد أن ينتخب في تعارض مع رغبة رئيس الجامعة. تحصل انتخابات نقابية في بعض الجامعات، وفي جامعات أخرى يتم تجديد مدة هيئة النقابة في اجتماع عام للعاملين برفع اليد، وذلك على نمط انتخابات الجمهوريات العربية التي كانت تنتخب بنعم أو لا لمرشح واحد لا ينافسه أحد.
حصل في إحدى الجامعات أن أقال رئيس الجامعة رئيس الهيئة الإدارية للنقابة، وعين على الفور بديلا له من حملة شهادة الدكتوراه. والغريب أن العاملين صمتوا إزاء هذا الإجراء، والبديل قبل بالتعيين على الرغم من أنه من الذين يتحدثون دائما عن محاسن الديمقراطية. لقد ارتضى العاملون لأنفسهم الخنوع، وتحولت بعض الجامعات إلى مؤسسات شبيهة بمؤسسات الاستبداد العربي.
حصل معي أن انتقدت رئيس جامعة بمقال لأنه قبل طالبا راسبا في الثانوية العامة في الهندسة المعمارية. وقد وقفت نقابة العاملين التي لم أكن عضوا فيها ضدي وأصدرت بيانا بالاشتراك مع مجلس الطلبة وبعض الحركات الطلابية ضدي مطالبين بالتخلص من وجودي في الجامعة، وقامت السلطة الفلسطينية باعتقالي لثلاثة أيام في سجن مدني. كانت القضية واضحة كوضوح الشمس، وادعائي مثبت وموثق، لكن الرعب دفع بنقابة العاملين للوقوف ضدي، وكان من المفروض أن تعتقل السلطة رئيس الجامعة لكنها اعتقلتني أنا، والسبب أنني مسست مصالحهم عندما دافعت عن الوطن والمعايير السليمة في قبول الطلاب. وربما يقومون باعتقالي أو الاعتداء علي بسبب هذا المقال.
ولن نختم هذا المقال قبل الحديث عن الوضع الأكاديمي، فقد حصل أن قامت مؤسسة معا الإخبارية باستفتاء عبر موقعها على الأنترنت لتحديد المتميزين في مجالات عدة ومن ضمنها المجال الأكاديمي. لاحظت بعض طلبة جامعة فلسطينية معينة يطوفون بشوارع مدينة طولكرم يدعون الناس عبر مكبرات الصوت للتصويت لشخص معين وهو رئيس جامعة. أما رئيس جامعة آخر فوظف طلاب جامعته للتصويت له ودفع الناس للتصويت له، ولم يبخل بوضع لافتات دعائية من أجل حشد المصوتين. هذا استفتاء كان معنيا بترك الناس يختارون وفق خبرتهم ووفق ما يتطلعون إليه. وكان من المفروض عدم التدخل لكي تعكس النتائج حقيقة ما يفكر الناس به.
أفسد بعض رؤساء الجامعات الاستفتاء. وكان تقديري أن بعضهم قد قام بذلك ليغطي العجز الذي يلاحقه، وليظهر أمام الناس أنه مميز أكاديميا. لقد حاز بعضهم على درجات مميزة في الاستفتاء لكنهم خسروا بالمزيد في صفوف الناس لأن لعبتهم كانت مكشوفة.
وإذا كنا نبحث عن تغيير الأوضاع في فلسطين، فعلينا أن نبدأ بالجامعات التي من المفروض أن تحمل الهم الوطني وتكون في المقدمة في مواجهة الاحتلال. المفروض ألا تكون الجامعات مطايا لمن يبحثون عن سلطان وجاه ومال. هذه جامعات للشعب الفلسطيني والمفروض أن تكون ريادية في قيادة المجتمع نحو التحرير والحرية، وإلا نكون قد فقدنا أنفسنا وأضعنا ما تبقى من الوطن.
عبد الستار قاسم
عندما يدير الجامعات مراهقون 1130