"في الغرف المظلمة لسجن أبو غريب وزنازين الاعتقال بسجن غوانتانامو.. خسرت أميركا أغلى قيمها". تلك كانت كلمات السيناتور باراك أوباما -المرشح الرئاسي الأميركي الشاب- وقتذاك، الديمقراطي المثالي الذي حاضر في القانون الدستوري بجامعة هارفارد الأميركية العريقة.
كلماته الشجاعة تلك، كانت قد ميزته أمام منافسيه السياسيين المخضرمين، ربيبي المؤسسة الأميركية الحاكمة: جون ماكين وهيلاري كلينتون. و ذلك إبان حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية في خريف 2007.
كلمات أوباما الرنانة تلك كان قد تردد صداها داخل أميركا وخارجها، ذلك لأنه قد أعطى أملا، بأنه -أخيراً- قد نهض سياسي جديد من غمار الساسة الأميركيين، سيحرر المجتمع الأميركي والغربي من سوءات الاستثمار والتكسب السياسي في أزمات الخوف والكراهية التي سادت إبان عهد جورج بوش، عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية.
في أوج حملته الانتخابية الموسومة بحملة الأمل، وعد أوباما باستعادة روح أميركا وتفوقها الأخلاقي، لذلك كان من أشهر وأهم وعوده الانتخابية: إغلاق سجن غوانتانامو السيّئ الصيت، الذي وصفه أوباما في مناسبات عدة "بوصمة العار في سمعة وروح أميركا الديمقراطية".
إجراءات للوفاء بالوعد
اتساقا مع وعده الانتخابي، وبعد يومين فقط من دخوله البيت الأبيض في 22 يناير/كانون الثاني 2009، أصدر الرئيس أوباما أهم ثلاثة أوامر تنفيذية (رئاسية) ذات رمزية عميقة، ترمز بجلاء إلى فلسفة ونهج حكمه.
الأمر التنفيذي الأول كان يقضي بإغلاق سجن غوانتانامو خلال عام واحد فقط، بينما الأمر التنفيذي الثاني كان منع التعذيب في السجون والمعتقلات الأميركية، أما الأمر التنفيذي الثالث فإنشاء هيئة مختلطة من الأجهزة والوكالات المعنية تعمل على مراجعة سياسات وإجراءات الاعتقال في أميركا.
لا جدال، تلك كانت خطوات وإجراءات عملية وجدت قبولا واسعا. فبدا واضحا أن أوباما كان جادا في إرسال رسالة واضحة لمؤيديه في أوساط الديمقراطيين والليبراليين، بأن أميركا تحت قيادته قد أحدثت قطيعة كاملة مع عهد إدارة جورج بوش، وأن العالم على موعد جديد مع أميركا التي تقود بالنموذج والمثال والالتزام بالقانون الدولي والمعايير الإنسانية الحضارية.
أسباب النكوص الحقيقية
بناء على المواقف المعلنة لأوباما، لم يشك أحد في نيته والتزامه بإغلاق السجن الذي اتفق أغلب خبراء القانون الدولي والمنظمات الحقوقية على عدم قانونيته، وذلك وفقا لمبادئ وقواعد القانون الدولي، خاصة القانون والعرف الإنساني الدولي الذي نهض على اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وبرتوكوليها الملحقين الأول والثاني لعام 1977.
إذن، لماذا نكص أوباما وعده بإغلاق سجن غوانتانامو حتى الآن؟ ما الأسباب الحقيقية لذلك؟
لا شك أن هنالك أسبابا ظاهرة ذات طبيعة قانونية وسياسية وأمنية وبيروقراطية، يمكن أن يبرر بها البعض فشل أوباما في إغلاق هذا السجن، فمثلا الرئيس أوباما و"ماكينة" إعلامه وعلاقاته العامة، تركز بشكل رئيسي على لوم الكونغرس!
حقا، لا أحد ينكر دور الكونغرس في إفشال جهود أوباما في إغلاق هذا السجن، كما لا نقلل من العوامل والأسباب الأخرى. بيد أننا نلوم الرئيس أوباما على هذا الفشل على مدى الثمانية أعوام الماضية من فترة حُكمه.
فقد أصبح جليا أن هناك فرقا واختلافا بين شخصية أوباما المرشح الرئاسي، وشخصية أوباما الرئيس الذي تبدلت أولوياته كسياسي براغماتي يسعى لتحقيق كسب سياسي شخصي، وتركة تاريخية في الحكم تخلد اسمه. إضافة إلى ذلك، فإن نهج أوباما وطبيعة شخصيته المترددة، ظلت تمثل أهم العوامل التي جعلته يعجز عن الوفاء بوعده الانتخابي بإغلاق السجن على الأقل حتى الآن!
بحكم شخصيته الوفاقية في القيادة والحكم، أراد أوباما موافقة ومساعدة الكونغرس في تنفيذ وعده بإغلاق غوانتانامو. غير أن أوباما يدرك جيدا صعوبة هذا المسعى، إن لم يكن استحالته، خاصة أنه فقد السند بعدما فقد حزبه الديمقراطي الأغلبية في الكونغرس ومجلس الشيوخ، وذلك بعد عامين فقط من دخوله البيت الأبيض، إضافة إلى خذلانه من بعض أعضاء حزبه في الكونغرس الذين لم يجرؤ على المخاطرة برصيدهم السياسي في شأن يتسم بحساسية عالية في أوساط الرأي العام الأميركي.
لذلك فإن كثيرا من الذين تابعوا ملف إغلاق السجن خلصوا إلى حقيقة صادمة، وهي أن الملف كان ضحية لعبة سياسية وتجاذب بين السياسيين الأميركيين من الحزبين. فأوباما الرئيس لم يدرج هذا الملف ضمن أولوياته كما وعد إبان حملته الانتخابية. فقط، ظل مسكونا وغارقا في أولويات الملفات الداخلية التي أرادها أن تكون ضمن تركته في الحكم، ومن أوضح الأمثلة على ذلك خطة التأمين الصحي المجاني، أو ما يسمى "برنامج أوباما للرعاية الصحية". حتى إن كبير موظفيه في البيت الأبيض آنذاك إيمانويل رام خاطبه ناصحا "لماذا نبدد رصيدنا السياسي في ملف إغلاق هذا السجن.. إنه ليس أولوية للأميركيين، الرعاية الصحية المجانية هي شغل الأميركيين الشاغل.. سيخلدك التاريخ -كأول رئيس أميركي يحقق هذا الإنجاز".
إذن، أوباما كان يساوم ويقايض لتمرير وإنجاز ملفات أخرى، كأولويات قصوى، على حساب ملف إغلاق سجن غوانتانامو. لذلك من المهم إيراد شهادة السيناتور المخضرم جون ماكين الذي اتهم إدارة أوباما بعدم الجدية في إغلاق السجن، حيث قال بالحرف "أنا حليف لإدارة أوباما ومؤيد لإغلاق غوانتانامو، وطالبت الإدارة عدة مرات بتقديم خطة واضحة للكونغرس لإغلاقه، إلا أن الإدارة عجزت عن تقديم خطة عملية في هذا الشأن".
كما أشرت، لا أقلل البتة من دور الكونغرس -الذي يسيطر عليه الجمهوريون- في عرقلة جهود إدارة أوباما في إغلاق السجن. فهنا تتبدى النقطة الفاصلة بين نهجين وفلسفتين ومدرستين في السياسة الأميركية، إلى حد ما! فأوباما وقاعدته الليبرالية واليسارية ظلوا يشعرون بخيبة وعقدة أخلاقية واضحة جراء بقاء هذا السجن؛ أما الجمهوريون -خاصة مجموعة المحافظين الجدد الذين كانوا يسيطرون على إدارة بوش- فيرون في استمرار هذا السجن أمرا مبررا ومشروعا من أجل حماية وصون الأمن القومي الأميركي. حتى أن إنشاء السجن خارج الأراضي الأميركية كان الهدف منه إبعاد المعتقلين من دائرة اختصاص المحاكم الأميركية، بحسب كثير من المراقبين.
وفي هذا السياق استغل الجمهوريون أغلبيتهم في الكونغرس لعرقلة جهود أوباما لإغلاق السجن، فمثلا كان الكونغرس قد أصدر تشريعا منع بموجبه إدارة أوباما من استخدام أي ميزانية أو إنفاق أي "مال فدرالي" لترحيل معتقلي غوانتانامو إلى الأراضي الأميركية.
وعلى الرغم من العراقيل والعقبات التي وضعها الكونغرس، استطاع أوباما تخفيض عدد المعتقلين في غوانتانامو، حيث كان عددهم 242 معتقلا عندما دخل أوباما إلى البيت الأبيض، منهم 177 رحّلوا ووطّنوا في بعض الدول وفقا لاتفاقيات خاصة.
أما العدد المتبقي من المعتقلين في غوانتانامو حتى هذه اللحظة فيبلغ 61 معتقلا، هؤلاء تتراوح ظروفهم وأوضاعهم القانونية، فهنالك من حكم عليه بالسجن أكثر من عشر سنوات، وهناك من ينتظر المحاكمة، وآخرون تقرر اعتقالهم لفترة مفتوحة (دون محاكمة) لخطورتهم على الأمن القومي الأميركي، على حد تقدير الأجهزة الأمنية الأميركية، وهم 31 معتقلا، و هنالك أيضا من تقرر الإفراج عنه أو ترحيله إلى دول أخرى، وعددهم عشرون معتقلا.
مهما يكن من أمر، فهنالك أسئلة جوهرية في هذا الشأن: كيف سيتعامل أوباما مع من تبقى من المعتقلين؟ هل سيتحدى أوباما الكونغرس ويصدر أمرا تنفيذيا بترحيل هؤلاء المعتقلين إلى الأراضي الأميركية، ماذا يعني إغلاق المعسكر بصورة نهائية؟ هل سيحاكم من تبقى من هؤلاء المعتقلين في المحاكم المدنية الأميركية؟
الفرصة الأخيرة
القرار بيد أوباما، لكن هل سيفعلها في "الزمن الضائع"؟
ما زالت أمام الرئيس أوباما فرصة للوفاء بوعده الانتخابي بإغلاق سجن غوانتانامو، إذ إن القرار بيده وحده لا بيد الكونغرس كما هو شائع، وذلك وفقا للدستور الأميركي، لكنه قطعا يحتاج إلى إرادة سياسية لتنفيذ وعده.
وألفت هنا إلى مقال مهم نشر في صحيفة واشنطن بوست، فقد رأى المستشار القانوني للبيت الأبيض جورج كريغ في عام 2009، وكليف سلون المبعوث الخاص لأوباما لإغلاق سجن غوانتانامو في الفترة 2013-2014، في مقالهما تحت عنوان "الرئيس لا يحتاج إلى إذن الكونغرس لإغلاق غوانتانامو"؛ أن قرار الكونغرس المتعلق بمنع الإدارة من ترحيل معتقلي غوانتانامو إلى الأراضي الأميركية غير دستوري.
كما أوضح المسؤولان السابقان أنه "وفقا للمادة الثانية من الدستور الأميركي، فإن الرئيس يملك السلطة الحصرية في تحديد السجون والمعتقلات التي يتحفظ فيها على معتقلي العدو العسكريين".
وفي ضوء ذلك، هل سيمارس الرئيس أوباما سلطته الحصرية -وفقا للدستور الأميركي- ويصدر قرارا أو أمرا تنفيذيا بترحيل من تبقى من المعتقلين إلى الأراضي الأميركية، وتقديمهم لمحاكمات أمام القضاء الأميركي، وبالتالي إغلاق سجن غوانتانامو نهائيا؟ هل يمكن أن نقرأ تصريحات جو بايدن نائب الرئيس الأميركي في هذا السياق بشيء من الأمل؟ فقد قال في نهاية الأسبوع المنصرم "إن سجن غوانتانامو سيغلق قبل العشرين من يناير/كانون الثاني 2017، أي قبيل مغادرة أوباما البيت الأبيض".
يبدو أن نائب الرئيس الأميركي يتحدث بناء على معلومات، لذلك من المرجح أن يغلق أوباما سجن غوانتانامو، لكن السؤال بأي صيغة أو سيناريو؟ وهل ستكون صيغة تتوافق مع القانون الدولي، خاصة أن الأميركيين لا يعترفون بالمركز القانوني لمعتقلي غوانتانامو كأسرى حرب، وفقا للقانون الإنساني الدولي؟
سنرى ما إذا كان أوباما سيفي بوعده قبل جلوسه على رصيف الأحداث قريبا، كي تترسخ في أذهان الناس أن الوعود الرئاسية -والتي هي في غالبها للاستهلاك السياسي- قابلة للتنفيذ لاستعادة الصدقية المفقودة.
أحمد حسين آدم
هل ينجز أوباما وعده بإغلاق سجن غوانتانامو؟ 824