تتعمق مشكلات شركة غاز بروم الروسية مدفوعة بالتغيرات الجذرية في سوق الطاقة العالمي، ما يفقد الكرملين سلاحه "الأكثر فاعلية" في أوروبا. وتعيش غاز بروم أوقاتا صعبة مع دخول منافسين جدد إلى السوق الأوروبية، ورغبة بروكسل بالتخلص من "عصا الكرملين" الغليظة التي أشهرها أكثر من مرة في إطار حروب الغاز مع جيرانه وأعدائه في العقد الأخير.
وانعكس تراجع أسعار النفط على مؤشرات الشركة المالية، وأسهم تراجع الطلب على الغاز الطبيعي في داخل روسيا، وفي أوروبا، مترافقا مع تعثر فتح السوق الصينية إلى هبوط إنتاج غاز بروم إلى أدنى مستوى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.
ومع دخول منافسين مستقلين في السوق الداخلية، وتراجع الاقتصاد الروسي، وانخفاض الصادرات إلى بلدان الرابطة المستقلة واصل إنتاج الشركة انخفاضه. وكشفت غاز بروم منذ أيام أن إنتاجها في عام 2016 لن يتجاوز 417.3 مليار متر مكعب بسبب تراجع الطلب داخليا وخارجيا.
وتقر الشركة بوجود طاقة إنتاج فائضة عن الحاجة تقدرها بنحو 173 مليار متر مكعب، فيما تذهب مؤسسات بحثية مستقلة إلى أن الفائض يصل إلى 225 مليارا. وفي بداية هذا العام كشف رئيس شركة غاز بروم ألكسي ميلير أن الشركة تستطيع إنتاج قرابة 617 بليون متر مكعب لكنها لم تتمكن من تسويق أكثر من 444 بليون متر مكعب في 2014.
الغاز القطري في بولندا
وتلقت غاز بروم سلسلة ضربات موجعة في الأشهر الأخيرة، ووصلت أولى دفعات الغاز القطري المسال إلى محطة "شفينويتشيه" شمال غرب بولندا في منتصف يونيو/حزيران الماضي بعد أيام من إعلان وارسو نيتها الاستغناء عن العقود طويلة الأجل في واردات الغاز الطبيعي من روسيا، وعدم رغبتها تمديد العقود السابقة مع غاز بروم. وتندرج الشحنة ضمن اتفاق بولندي مع قطر لتوريد 5 مليارات متر مكعب من الغاز أي ما يعادل نصف احتياجات البلاد السنوية.
ومنذ سنوات تخطط بولندا للتخلي عن الغاز الروسي، وتطمح للتحول إلى مركز إقليمي لتوزيع الغاز إلى أوكرانيا وبعض بلدان أوروبا الوسطى التي تكاد تعتمد بالكامل على غاز بروم في تلبية احتياجاتها من الغاز. ولهذا الغرض بدأت وارسو تطوير شبكة كبيرة للأنابيب وشيدت مخازن تحت الأرض، وتخطط لبناء ميناء آخر لاستقبال شحنات الغاز المسال، كما بدأت مشروعا مع الدنمارك لوصل شبكتي الغاز في البلدين ما يفتح المجال لها للوصول إلى الغاز النرويجي وغاز بحر الشمال.
ويحرم استغناء بولندا عن الغاز الروسي "غاز بروم" سوقا تؤمن لها مبيعات سنوية تقدر بنحو 10 مليارات متر مكعب. وتؤكد وارسو أن خطواتها الأخيرة تفتح المجال أمام تنويع مصادر واردتها، وتخفيف اعتمادها على روسيا في تأمين نحو 40% من واردات الغاز.
غاز قزوين إلى أوروبا
وبعد وقف مشروعي السيل الجنوبي المدعوم من روسيا لنقل الغاز إلى جنوب ووسط أوروبا، تلقت غاز بروم صفعة مؤلمة جديدة؛ إذ أعلن الاتحاد الأوروبي منتصف الشهر الماضي بدء العمل في بناء خط أنابيب لنقل الغاز الأذربيجاني عبر البحر الأدرياتيكي إلى جنوب أوروبا.
وحسب التقديرات الأولية فإن الشبكة تستطيع نقل نحو 10 مليارات متر مكعب سنويا من حقول "شاه دينيز" في أذربيجان بدءا من عام 2019. ويعدّ خط أنابيب الغاز عبر البحر الأدرياتيكي جزءا من "الممر الجنوبي" الذي من المقرر أن يضم عدة شبكات أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من بحر قزوين إلى أوروبا من دون المرور عبر روسيا. ويحرم المشروع الجديد عند انتهاء المرحلة الأولى منه غاز بروم من نحو نصف حصتها في السوق الإيطالية.
وخط أنابيب الغاز عبر البحر الأدرياتيكي هو الحلقة الأخيرة في سلسلة من أنابيب باكو - تبليسي - أرضروم (خط أنابيب الغاز في جنوب القوقاز). ووافقت المفوضية الأوروبية في مارس/آذار الماضي على المشروع وعدته موافقا للتشريعات الأوروبية، رغم عدم اختلافه جذريا عن خط أنابيب السيل الجنوبي "ساوث ستريم" (الذي اضطرت روسيا في أواخر عام 2014، للتنازل عنه بسبب مطالبات المفوضية الأوروبية وتشريعاتها التي تحظر على منتجي الغاز المشاركة في نقله وتوزيعه داخل أوروبا). وتم استثناء خط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي من تطبيقات حزمة الطاقة الثالثة، بناء على طلب المساهمين رغم مساهمة شركة "سوكار" الأذربيجانية بنحو الخمس في المشروع. وترى المفوضية أن "الخط العابر للأدريارتيكي" يزيد المنافسة ويعزز أمن الطاقة في القارة العجوز.
اتهامات بالاحتكار
وتروج المفوضية الأوروبية لـ 14 مشروعا بديلا لتخفيف الاعتماد على الغاز الروسي، وتكيل اتهامات لموسكو بالاحتكار، والتلاعب بالأسعار واستغلال مركزها المهيمن في عدد من أسواق البلدان الأوروبية. وأخيرا وافقت المفوضية على إستراتيجية لتأسيس اتحاد الطاقة الأوروبي. وبمقتضى الإستراتيجية يجب على بلدان الاتحاد الأوروبي التوافق مع المفوضية على مشترياتها من موارد الطاقة في المستقبل، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالغاز لضمان مطابقتها للمعايير الأوروبية عامة.
وما سبق يعني عمليا فيتو على تطوير أي خطوط نقل جديدة من دون موافقة المفوضية الأوروبية، وهو ما ينطبق على بناء فرع جديد ضمن شبكة السيل الشمالي "نورد ستريم2" الذي يوصل الغاز من روسيا إلى ألمانيا عبر قاع بحر البلطيق، وتبلغ طاقته التشغيلية حاليا نحو 55 مليار متر مكعب سنويا. ويسمح الفرع الثاني بمضاعفة الطاقة التشغيلية إلى نحو 110 مليارات متر مكعب من الغاز سنويا. وتعارض المفوضية بشدة هذا المشروع لأنها ترى أنه يلحق ضررا بأوكرانيا وبلدان وسط وشرق أوروبا، ويتركز نحو 80% من صادرات أوروبا من الغاز الروسي في شبكة أنابيب واحدة.
ويبدو واضحا أن المفوضية تسعى إلى جمع مستهلكي الطاقة الأوروبيين في جبهة واحدة لمنع أي طرف خارجي من التحكم بسوق الطاقة الداخلي. ومنذ أيام أعلن المساهمون الأوروبيون في "نورد ستريم2" انسحابهم من المشروع بعد اعتراضات بولندا، ما يعني أن غاز بروم سوف تضطر إلى تمويل المشروع كاملا، إن أصرت على الاستمرار فيه وهو أمر صعب جدا في ظل العقوبات الأوروبية على الشركة التي تعاني مشكلات مالية، وفي ظل المتاعب التي يعانيها القطاع المالي الروسي المتعب من العقوبات.
فشل التوجه نحو الصين
ورغم مرور عامين على توقيع "صفقة القرن" بين غاز بروم والصين والمتضمنة تصدير نحو 38 مليار متر مكعب سنويا من الغاز الروسي إلى الصين لمدة 30 عاما فإن المشروع لم يتحرك عمليا من نقطة البداية، بسبب عدم وجود استثمارات كافية، والعقوبات الغربية المفروضة على التقنيات اللازمة لأعمال التنقيب، وتغيرات في إستراتيجية الطاقة الصينية برزت بوضوح عبر التوجه إلى آسيا الوسطى.
وقبل أشهر توقعت دراسة لمعهد أكسفورد لبحوث الطاقة أن الاقتصاد الصيني سوف يحتاج إلى استيراد قرابة 170 مليار متر مكعب في عام 2020. وحسب العقود الموقعة بين الصين ومنتجي الغاز في آسيا الوسطى فإنها سوف تستورد 80 مليار متر مكعب من تركمانستان وكازاخستان وأوزبكستان. وقرابة 12 مليار متر مكعب من ميانمار، وقرابة 82 مليار متر مكعب في شكل غاز مسال. وبمطابقة الأرقام فإن غاز بروم لن تستطيع الحصول على حصة في السوق الصينية إلا إذا ارتفع الطلب كثيرا في الصين، مع الحصول على حسومات كبيرة.
ورغم هبوط الإنتاج في أوروبا ذاتها فإن حصة غاز بروم من السوق الأوروبية تتراجع في شكل واضح في السنوات الأربعة الأخيرة. وحسب البيانات الرسمية فإن كميات الغاز المتعاقد عليها وفق العقود طويلة الأجل مع الجانب الأوروبي لا تتجاوز 158 مليار متر مكعب سنويا.
وحتى الآن أخفقت الشركة الروسية في إيجاد زبائن جدد أو المحافظة على حصتها السابقة رغم عرضها شروطا جديدة مثل التخلي عن مبدأ "ادفع واستلم" (وفقا لهذا المبدأ، يجب على المشتري الدفع عن الكميات المتعاقد عليها بغض النظر عن الكمية التي يستلمها المشتري)، أو حتى تنظيم مزادات مفتوحة لبيع الغاز. وتطالب معظم البلدان الأوروبية بمراجعة أسعار وشروط العقود طويلة الأجل مع غاز بروم.
وتدريجيا تتغير طبيعة سوق الغاز الطبيعي في أوروبا الساعية إلى تحويل الغاز إلى سلعة عادية. وتتشكل سوق يتحكم فيها المشتري، وحسب تقديرات مؤسسات بحثية فإن شبكة خطوط الأنابيب من روسيا إلى الغرب تعمل بنحو 45 في المئة من قدرتها التشغيلية. وحتى خط "نورد ستريم" فإنه يعمل بنحو 75 في المئة من طاقته فقط.
وتسعى الولايات المتحدة إلى دخول السوق الأوروبية بقوة عبر صفقات الغاز المسال، وتخطط واشنطن لرفع صادراتها من الغاز المسال من نحو 30 مليون متر مكعب إلى نحو 60 مليونا في غضون ثلاث سنوات. وفي مقابل تطور صناعة الغاز المسال في قطر، وأستراليا، والولايات المتحدة وغيرها فإن خطوات روسيا في هذا المجال مازالت متعثرة. فقد توقف مشروع بناء مصنع لتسييل الغاز في فلاديفستوك وتثار أسئلة حول بناء الخط الثالث في مصنع ساخالين بطاقة 5 ملايين طن فقط.
وفي الأشهر الأخيرة أبدت إيران استعدادها أكثر من مرة لتزويد أوروبا بالغاز والنفط، وعرضت إنشاء خطوط للنقل من إيران والعراق إلى أوروبا. ويرى خبراء أن إيران قادرة على تصدير أكثر من 70 مليار متر مكعب إلى أوروبا على المدى المتوسط، ولن يزيد طول الأنابيب من إيران عن نظيراتها الروسية.
ومن المتوقع أن تنشب حرب أسعار في سوق الغاز الطبيعي في السنوات المقبلة تذكر بما يحدث في سوق النفط؛ إذ من المنتظر ارتفاع إنتاج الغاز المسال من نحو 330 مليون طن سنويا في الوقت الراهن إلى 480 مليونا في غضون ثلاث سنوات. وتعد القارة الأوروبية الساحة الرئيسة لمعركة الأسعار المقبلة ما يعني اضطرار روسيا إلى خفض أسعار الغاز المصدر إلى أوروبا أو الخروج من السوق وهو ما لا تستطيع فعله بسبب اعتماد موازنتها المفرط على واردات الطاقة.
وتظهر المؤشرات أن الوهن أصاب سلاح الكرملين الفعال، فقد تراجعت حصة روسيا في سوق الغاز الأوروبي كثيرا من نحو من 55% في العام 1990 إلى أقل من 30% حاليا.
وواضح أن استخدام غاز بروم في المشروعات الجيوسياسية للكرملين ساهم في تراجع دور الشركة التي أهملت ضرورة دراسة تغيرات السوق، والتحول إلى شركة طاقة شاملة بدلا من تبذير عشرات المليارات من الدولارات في تنفيذ مشروعات سياسية لا جدوى اقتصادية منها. ومن المؤكد أن الغاز كان سببا مهما من أسباب موافقة روسيا على تطبيع العلاقات مع تركيا، لكن استئناف العمل ببناء خط "السيل التركي" لن يشكل عصا سحرية لإنقاذ إمبراطورية غاز بروم التي أصابها الوهن.
سامر إلياس
انحسار إمبراطورية غاز بروم يبدد أحلام الكرملين الجيوسياسية 961