أحد أمرين: إما أن تَحاكم المنظمات الحقوقية المصرية بتهمة البلاغ الكاذب. أو أن يُحَاكم الذين يقومون بالتعذيب في السجون بتهمة انتهاك القانون والدستور. إما أن تظل نداءات المنظمات الحقوقية، واستغاثات المسجونين وأهاليهم تطلق في الفضاء دون أن يحرك ذلك شيئا في المجتمع المصري. فذلك مما لا يليق أخلاقيا ووطنيا. وحين تتجاهل وسائل الإعلام ونخبة المثقفين والسياسيين تلك الأصوات، بحيث لا تجد لها منفذا سوى مواقع التواصل الاجتماعي الخارجة عن السيطرة، فإن ذلك يشين هؤلاء جميعا. إذ يجعلهم متهمين بالتستر على تلك الانتهاكات، ولا يصنفهم فقط ضمن «الشياطين الخرس» كما ورد في الأثر.
لست أدعو إلى التسليم بكل ما يبث من بيانات أو استغاثات، لكنني أدعو أولا إلى عدم تجاهلها بالكلية. وأدعو ثانيا إلى الكف عن التعامل معها بحسبانها شائعات مغرضة تستهدف الإساءة إلى الشرطة وتشويه صورة النظام القائم. وغاية ما أدعو إليه ــ ثالثا ــ أن يخضع الأمر للتحقيق والتحري، للتثبت من صحة تلك الشكاوى، خصوصا إذا تواترت وتعددت مصادرها وتبنتها منظمات حقوقية معترف بها قانونا. وإذا ما ثبت أن الادعاءات ليست صحيحة فذلك سوف يسرنا لا ريب. لأنه غاية ما نتمناه. ليس ذلك فحسب وإنما ينبغي أن يحاسب من أطلقها وروجها لأنها ستكون حينئذ من قبيل الادعاءات الكاذبة. أما إذا ثبتت صحتها، كلها أو بعضها، فمساءلة ومحاكمة المسؤولين عنها تصبح واجبة، ليس فقط إعمالا للقانون والدستور (المادة ٥٢ منه تقرر أن التعذيب بكل صوره وأشكاله جريمة لا تسقط بالتقادم)، وإنما أيضا لتطهير صفحة النظام وتعزيز الثقة فيه. وغني عن البيان انه ما لم تتم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات فإن التهمة ستظل وصمة تلاحق النظام فى الداخل والخارج.
خذ مثلا هذا البيان الذي وقعته فى ٢٤ مارس الحالي عشر منظمات حقوقية وذكرت فيه ما يلي: تدين المنظمات الموقعة عمليات التعذيب والتكدير الجماعي التي تتم في السجون المصرية، والتي حدثت في الأسبوع الماضي في ليمان ٢ عنبر ب بمجمع سجون أبوزعبل. وهو ليس الأول من نوعه لأن بعض المنظمات الموقعة تلقت تقارير أفادت بوقوع حالات تعذيب في الأسابيع الأخيرة شملت سجون برج العرب وطرة. أضاف البيان أن عددا من المنظمات الموقعة تلقت إفادات بوجود حالات تعذيب ومعاملة مهينة للكرامة بحق محتجزين على خلفية قضايا سياسية بسجن أبوزعبل. وبحسب الإفادات فإن تشكيلات ملثمة من عناصر الأمن المركزي اقتحمت الزنازين يوم ١٩ مارس ٢٠١٥، واعتدت على المحتجزين بالعصي وأطلقوا عليهم الكلاب البوليسية، كما استخدموا الغاز المسيل للدموع. مما أوقع إصابات بين المحتجزين وحدوث حالات إغماء بينهم. كما قامت قوات السجن بإخراج ١٥ محتجزا من زنازينهم، وقامت بتعذيبهم طوال ثلاث ساعات متصلة، بعد تجريدهم من ملابسهم وإجبارهم على سب أنفسهم بكلمات بذيئة. وبعد ذلك قاموا بنقلهم إلى زنازين التأديب الانفرادية. وبين أسماء المحتجزين حاليا فى الحبس الانفرادي كل من: عبدالرحمن طارق ــ مصطفى شحاتة ــ بلال المعداوى (مصاب) ــ محمود أحمد سيد (مصاب) ــ عمر محمد موسى (مصاب) ــ محمود عاطف (مصاب). كما ذكر البيان أيضا أن الصحفي أحمد جمال زيادة بدأ إضرابا كاملا عن الطعام احتجاجا على استمرار حبسه انفراديا لفترة تجاوزت ٤٥٠ يوما، وسوء معاملته في محبسه، حيث يتعرض بشكل مستمر للمعاملة المهينة والتعذيب.
في ختام البيان وجهت المنظمات الحقوقية العشر ثلاثة طلبات هي: التحقيق الفوري في أحداث التعذيب بسجن أبوزعبل ــ دعوة نقابة الأطباء والمجلس القومي لحقوق الإنسان لزيارة المحتجزين الذين تعرضوا للاعتداء، وفحصهم وتقديم الرعاية الطبية للمصابين منهم ــ تمكين منظمات المجتمع المدني الحقوقية من زيارة المحتجزين للتعرف على أوضاعهم، خاصة أنه قدمت فى السابق عدة طلبات بهذا الخصوص قوبلت بالرفض.
هذا البيان ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد. وقد اخترته من بين عشرات الرسائل والبيانات التي صدرت عن أفراد وأمهات شكت كلها مما يتعرض له المحتجزون من تعذيب وانتهاكات، الأمر الذي جرَّمه الدستور بنصه الصريح فى المادة ٥٢ منه. كان اختياري للبيان راجعا إلى أنه يتحدث عن حالة تواترت بشأنها الشكايات، فضلا عن أنه صادر عن عشر منظمات حقوقية لها وضعها القانوني وتضم عددا غير قليل من القانونيين والخبراء الغيورين على كرامة الإنسان المصري، بصرف النظر عن هويته أو معتقده.
ربما لاحظت أن سقف طموحاتنا آخذ في التراجع، فما عدنا نتحدث عن إنصاف مظلومين، ولا محاكمة المدنيين أمام قاضيهم الطبيعى، كما أننا فقدنا الأمل فى إطلاق سراح ضحايا الاعتقالات العشوائية الذين سمعنا أكثر من مرة أن قوائمهم تحت الإعداد. ذلك كله سكتنا عليه، ولم ننسه أو نغفره، لكننا صرنا نتحدث عن مجرد الحفاظ على كرامة وإنسانية المحتجزين وهم فى السجن، خصوصا أن الانتهاكات تزايدت بعد تعيين وزير الداخلية الجديد. وهو ما يصدمنا مرتين. مرة لوقوع التعذيب ومرة ثانية لاتجاه مؤشراته إلى التصعيد.
لقد غضب البعض وثاروا لأن كلبا قتل فى القاهرة، وصدر حكم بالسجن ثلاث سنوات للذين ارتكبوا تلك الجريمة، فليتنا نستثمر تلك الغيرة للدفاع عن كرامة المواطنين المصريين الذين يتعرضون لمختلف صور التعذيب في السجون.
فهمي هويدي
حاكموهم... 1973