كلام واضح تماما، ليس تصريحا منفعلا ولا على عجل. إنه خطاب مكتوب وكلماته منتقاة بعناية، ومن شخصية مهمة ومقربة من الرئيس أوباما منذ أكثر من عشر سنوات: دنيس ماكدونو الامين العام للبيت الابيض يدعو رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، المنتهية ولايته والمجددة له مؤخرا، إلى «إنهاء احتلال مستمر منذ خمسين عاما» للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 (الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة) معتبرا أنه ينبغي أن يتمتع الفلسطينيون «بالحق في الحياة في دولة سيدة وبأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم». وأضاف ماكدينو في خطاب بواشنطن الاثنين أن «إقامة دولة فلسطينية هو أفضل ضمان لأمن إسرائيل على المدى البعيد»، منتقدا بشدة تصريحات نتنياهو المتناقضة الاخيرة حول حل الدولتين قائلا إنه «في نهاية المطاف نعرف كيف يبدو اتفاق السلام، يجب أن تستند حدود إسرائيل وفلسطين المستقلة إلى حدود 1967 مع عمليات تبادل متفق عليها» مؤكدا استمرار معارضة واشنطن للأنشطة الاستيطانية الاسرائيلية في الاراضي المحتلة لأنها «تقوض فرص السلام».
ليست هذه أول مرة تقول فيها الادارة الامريكية هذا الكلام ولكن أهميته الاستثنائية هذه المرة تكمن في وروده ضمن السياق التالي:
أولا: التوتر غير الخافي في العلاقة الشخصية بين أوباما ونتنياهو والتي لا يبدو أن علاقة بين أي رئيس أمريكي ورئيس وزراء إسرائيلي وصلت إلى درجة انحدارها.
ثانيا: ترافقه مع مواقف أمريكية أخرى قيلت في انتقاد نتنياهو على غرار ما قالته ماري هارف المتحدثة باسم البيت الابيض حول تصريحاته التي تنصل فيها من التزام حل الدولتين قبل أن يعود و"يلحسها"، فقد قالت إن الادارة الامريكية باتت لا تعرف أي كلام تصدق بفعل التنناقض المتسارع بين التنصل من حل الدولتين والعودة للقبول به لاحقا، حتى أن ماكدينو قال بأنه «لا يمكننا ببساطة التظاهر بأن تلك التعليقات لم تحدث على الاطلاق».
ثالثا: التسريبات الصحافية الامريكية المتعددة المشيرة إلى أن واشنطن لن تبقى رهينة نزق نتنياهو وتقلباته المفضوحة، خاصة وهو يزعجها كذلك في مفاوضات الملف النووي الايراني ويزايد عليها، وبالتالي فمن غير المستبعد، وفق هذه التسريبات، أن توافق الإدارة على قرار في مجلس الأمن يمنح تفويضا دوليا لمبدأ حل الدولتين بما في ذلك الانسحاب لحدود 1967 مع تبادل أراض بالاتفاق بين الجانبين. ويعني ذلك الانسحاب من كل الضفة الغربية باستثناء التكتلات الاستيطانية الكبرى التي ستبقى بيد إسرائيل مقابل أراض إسرائيلية للدولة الفلسطينية. وقد جاءت معظم هذه التلميحات خاصة بعد الاعلان غير المسبوق للبيت الابيض مؤخرا على لسان الناطق غوش أرنست من أن الولايات المتحدة بدأت في إعادة تقييم سياستها إزاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في أعقاب قرار نتنياهو التنصل من حل الدولتين، في وقت أشارت فيه وسائل إعلام إسرائيلية إلى أن أبواب المسؤولين في الحكومة الأمريكية باتت موصدة في وجه السفير الاسرائيلي في واشنطن رون درامر وأن الأبواب المفتوحة أمامه هي فقط ابواب النواب الجمهوريين في الكونغرس. هذا تدهور غير مسبوق.
بناء على ما سبق لم يعد أمام الادارة الامريكية سوى خيار واحد من بين ثلاثة:
أن تكتفي بإشارات التخويف هذه لنتنياهو وتقف عندها. هنا يكون نتنياهو الفائز الاكبر في هذه المناكفة لأنه استطاع عبر الانحناء للعاصفة أن يجهضها بالكامل حتى تعود مجددا نسيم ود عليلا بين البلدين، خاصة مع المراهنة على بداية العد العكسي لرئاسة أوباما المتضايق أصلا الآن من عدم تمتع حزبه بالأغلبية في الكونغرس.
أن تضغط من أجل عودة المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وخاصة على الجانب الفلسطيني الرافض لذلك دون مرجعية محددة وجدول زمني واضح ووقف سياسة الاستيطان. هنا يكون طوق النجاة قد ألقي لنتنياهو الذي لم يكن يتعامل مع مثل هذه المفاوضات إلا كملهاة لكسب الوقت وفرض الحقائق على الارض. العودة إلى هذه المفاوضات ينطبق عليها بالنسبة إلى نتنياهو المثل الشعبي «قالوا للحرامي احلف قال جاك الفرج!!».
أن تقدم على خطوة تاريخية في مجلس الامن الدولي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، التي لم تكن تعارضها سواها، والدعوة لمفاوضات بعدها لتطبيق القرار وبحث التفاصيل ليس أكثر. هنا ستضرب واشنطن عصفورين بحجر واحد: وضع حد لصورتها السائدة لعقود كدولة معادية للحقوق العربية ومؤيدة لإسرائيل في كل شيء، وفي نفس الوقت جعل حلفائها العرب أكثر استعدادا وتقبلا لاتفاقها الشامل المنتظر مع طهران. فهل يمكن أن يفعلها أوباما؟ أم نحن أمام سراب جديد يطل علينا بين الحين والاخر ويظنه الظمآن ماء ؟
٭ كاتب من تونس
محمد كريشان
هل يفعلها أوباما؟ 2031