يبدو أنّ تخفيض أسعار النفـــط لم يـــؤتِ أكــــله؛ فلم يكبح جماح إيران أو يحدّ من تمددها في المنطقة، أو حتى يدفعها إلى التخفيف من حدة مواقفهـــا والجلوس إلى طاولة التفاوض، لا بل على العكس، فلا تـــزال محافظــة على مواقعها في هلالها الشيعي، الذي أصبح بدراً كامل التمام بعد انقلاب الحوثيين في اليمن ومحاولاتهم ابتلاع الدولة.
كما أنّ التوصل إلى اتفاق بين إيران والغرب حول برنامجها النووي وإبرام اتفاقية حوله – وهذا ما بات شبه مؤكد- سيعيد لها مليارات الدولارات من أرصدتها المجمدة، وسيرفع عنها العقوبات الاقتصادية، وبالتالي سيبعث الحياة من جديد في اقتصادها المتهالك، وهذا ما يرشح أزمات المنطقة للتفاقم أكثر فأكثر. المساعي الإيرانية للسيطرة على اليمن على النموذج اللبناني عبر بنادق الحوثيين؛ لن تأتي نتائجها بالنجاح نفسه الذي حقّقته في لبنان وسورية والعراق، فاليمن أكبر بكثير من قدرات الحوثيين، وهم حتى الآن لم يسيطروا إلا على أجزاء من شماله، في حين تبقى محافظات الجنوب ذات الأهمية الإستراتيجية، حيث النفط الذي يؤمّن حوالي 70٪ من عائدات الدولة خارج سيطرتهم. كما أنّ اليمن لن يستطيع الصمود بدون المساعدات الخليجية التي توقفت بعد انقلاب الحوثيين الأخير؛ فهل سيتمكّنون من دفع رواتب الموظفين هذا الشهر. لن تستطيع إيران دفع فاتورة سيطرة أتباعها على اليمن، كما تفعل في سورية ولبنان، أما العراق فتحتله بتمويله الذاتي مدعومة بصمت أمريكي ممهور بكل علامات الرضى.
عنوان تمدد إيران وسيطرتها على الدول العربية واحدة بعد أخرى هو تفكّك جيوش تلك الدول وحلول ميليشيات طائفية مكانها؛ أو غياب دورها كما حدث في لبنان خلال حربه الأهلية، فتفكك الجيش العراقي أفسح المجال للمليشيات الشيعية القادمة من إيران عقب الاحتلال الأمريكي له عام 2003 لتصدر الساحة. أما في سورية فقد كان الجيش يحمل الصبغة الطائفية، ورغم ذلك راحت تمدّه مؤخراً بمليشيات طائفية حتى تمنع سقوطه. انحلال الجيش اليمني وغياب دوره كان السبب الرئيسي وراء المدّ التسونامي الحوثي؛ الذي يحاولون تدعيمه حالياً وترسيخه عبر استخدام شخصيات كاريكاتورية توحي بتمثيل الشعب اليمني، لكنها لا تمثل إلا مصالحها؛ تمكنهم من السيطرة على مؤسّسة الدولة وتكرير تجربة سيطرة الأقلية العلوية على الجيش ثم على سورية أواسط ستينات القرن الماضي؛ فالحوثيون يسعون عملياً إلى ابتلاع الدولة اليمنية عبر سيطرتهم على العاصمة ومؤسسات الدولة وهذا غير واقعي. كلا التجربتين غير قابلتين للنجاح في اليمن، حيث يوجد سلاح بيد فرقاء آخرون غير الحوثيين، وليس كما هي الحال في لبنان، كما أنّ التجربة السورية تظلّ بعيدة المنال أيضاً لأنّ الجنوبيين يفضلون الانفصال على العيش في ظلّ دولة موحدة يسيطر عليها الحوثيون.
يوجد العديد من الفرقاء السياسيين في اليمن، لكن يبقى السلاح باستثناء الحوثيين بيد «القاعدة» والقبائل التي يؤيّد العديد منها حزب التجمع اليمني للإصلاح «الإخوان المسلمين»، وعلى السعودية أن تختار من تساند، فإذا كان من غير الوارد أن تدعم «القاعدة» فلن تجد أمامها سوى مسلحي القبائل وحزب التجمع اليمني للإصلاح، وهذا ما يعقّد القضية أكثر فقد تجد السعودية نفسها مرغمة على تغيير موقفها الإستراتيجي من الإخوان المسلمين أو التقليل من حدّته، إذا ما أرادت العمل معهم للوقوف في وجه إيران في اليمن.
تحتاج السعودية دولة بحجم مصر للوقوف في وجه المشروع الإيراني في المنطقة عامة واليمن خاصة؛ إلا أن مصر السيسي ليست كمصر السادات مثلاً، الذي أرسل طائراته الحربية فوق إثيوبيا مشدّداً في الوقت نفسه على التزامه الحوار السياسي معها حول رغبتها إقامة سد على النيل، شريان حياة مصر الوحيد؛ الأمر الذي لم تستطع مصر السيسي فعل شيء تجاهه باستثناء الصمت، وليست أيضاً كمصر عبد الناصر الذي أرسل قواته لتقاتل بشكل مباشر مع حلفائه اليمنيين في ستينات القرن الماضي؛ جُلّ ما فعلته مصر السيسي تجاه تهديدات التمدد الحوثي إلى باب المندب، وبالتالي خطر وقف عمل قناة السويس، هو التهديد الفارغ الذي لم يحمل أدنى علامات الجدية كإرسال سفن حربية مثلاً إلى المضيق أو القيام بطلعات جوية فوق البحر الأحمر، في وقت لا يزال العهد الجديد يسعى لترسيخ أركانه ويتخبّط بمشاكل داخلية لا تنتهي ولا تدعه يلتقط أنفاسه وتحجبه بذلك عن لعب أي دور حتى في محيطه الجغرافي الحيوي. الأزمات التي تعاني منها المنطقة تحتاج مصر أخرى؛ مصر قوية مستقرة قادرة على لعب أدوار إقليمية ولن يحدث هذا من دون قيام نظام يحظى بتأييد شعبي حقيقي.
الأزمات من لبنان إلى سورية فالعراق وصولاً إلى اليمن وقد يتلوها تحرك إيراني جديد ربما في البحرين، أو حتى في إحدى مناطق السعودية نفسها؛ ليســــت تلك الأزمات قضايا منفصلة، بل هي في الحقـــيقة قضية واحدة أساسها الصراع الفارسي العربي الذي يظهر بشكل صراع شيعي سنّي؛ وما يزيد تلك الأزمات تعقــــيداً أنّ هذا الصراع يحمل كل صفات الصراع الإيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية، الذي يحوي بين طياته إلغاء الآخر، وهذه الفكرة موجودة عند الولي الفقيه، الذي لم تعد تنفعه كلّ ديماغوجيات المقاومة والممانعة أو قصص فيلق القدس؛ الذي لم يفعل شيئاً لها، لكنّه يحتل سوريا ولبنان والعراق ودرّب الحوثيين الذين أسقطوا الدولة اليمنية وأدخلوها في نفق مظلم، لا شكّ أنّه لن يكون ما بعده كما ما قبله، كما أنّ ركوب الحوثيين موجة الثورة لن ينفعهم أو يغطي على جرائمهم مطلقاً.
ما حدث مؤخراً ليس وليد ساعته ويومه، وإنّما كان نتيجة عملية إستراتيجية أنجزتها إيران في وقت كان حكام الخليج يضعون ثقتهم في نظام ديكتاتوري ربط مؤسسات الدولة بشخص رئيسه، الذي سقط فأسقط الدولة معه؛ على مبدأ إما أنا أو لا أحد، كما لا تزال تعيش دول الخليج حالة من الانفصام في علاقاتها مع إيران؛ وتقيم علاقات اقتصادية إستراتجية معها، فقد أبرمت الكويت اتفاقية لشراء الغاز الإيراني وتعمل على مدّ خط عبر الخليج لنقله، وكذلك دخلت حيّز التنفيذ مطلع العام الحالي اتفاقية عُمانية إيرانية لشراء الغاز الإيراني مدتها 25 عاماً، هذا بالإضافة للسوق الخليجية التي تستورد الكثير المنتجات الغذائية الإيرانية؛ يجري كلّ ذلك بمعزل عن الصراع الدائر في المنطقة، الذي يشكل خطرا وجوديا على تلك الدول.
قد تنجح خطة تخفيض أسعار النفط ولكن بشرطين؛ الأول إفشال مساعي إبرام اتفاقية بين الغرب وإيران حول برنامجها النووي وبالتالي إبقاء إيران تحت الحصار الاقتصادي، والثاني استمرار أسعار النفط عند المستوى الحالي لفترة لا تقل عن خمس سنوات، وبالتالي تكرار ما حدث في ثمانينات القرن الماضي عندما أنهكت حرب أفغانستان والأسعار المنخفضة للنفط الاتحاد السوفييتي ودفعته إلى الانهيار.
تطور الأوضاع في اليمن يقابل بصمت غربي وغياب دور حقيقي لمجلس الأمن، فلم يعبر بان كي مون حتى عن قلقه تجاه الانقلاب الحوثي الذي يحمل بصمات إيرانية واضحة، كما كان تعليق ناطق باسم البيت الأبيض أنّ إدارة رئيسه أوباما لا ترى دليلا على سيطرة إيران على الحوثيين، في وقت توحي خريطة الصراع بحدوث تقسيم وشيك في اليمن فهل هذا ما يرده الغرب.
ما يجري في اليمن يفوق في خطورته نظرية ضرب الأعداء بعضهم ببعض، ويتطلّب تدخلا خليجيا سريعا فالصراع ليس بين الحوثيين وباقي الفرقاء اليمنيين؛ وإنّما بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي التي أصبحت هي نفسها الخطوة التالية للتمدّد الإيراني.
القدس العربي
بشار عمر الجوباسي
من سيسقط بعد اليمن التعيس؟ 1028