لأكثر من عقدين مضيا, لم يكن الأمر بالنسبة لي أكثر من انتظار لحظة حصول الصدام في أوروبا بين سكانها الأصليين والجزء الأكبر من المهاجرين إليها، ولم أكن أستبعد أن يكون ذلك تحديداً في فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا, لأسباب تتعلق بالوضع السياسي والديموغرافي والإرث التاريخي لهذه الأقطار بسلبياته وإيجابياته, الذي جعلها أكثر تماساً مع قضية المهاجرين من العالمين العربي والإسلامي.
وهو ما كان بدأ يشكل اصطفافات متباينة داخل تلك الأقطار في النظر إلى قضية المهاجرين, ولكن لم يجر الاعتراف بتغير نسب الاصطفافات مع تنامي التيار الإسلامي "الجهادي".
ويتأكد هذا بما جرى في ألمانيا فور الهجوم على مقر صحيفة "شارلي إيبدو" في فرنسا، واضطرار المستشارة الألمانية ميركل للسير في مظاهرتين خلال يومين, واحدة في باريس تدعم صحيفة "شارلي إيبدو", وثانية في بلادها تدعو لعدم التعرض لذوي الأصول العربية وللمهاجرين المسلمين. ولا نستبعد أن تلجأ بريطانيا لإجراءات خاصة بها, وحتماً ستتعاون مع الإجراءات الأوروبية.
الصدام الذي أطل، كان أحد طرفيه أوروبا عامة, وسيتعزز كونه كذلك، ليس فقط لكون ألمانيا وفرنسا تقودان الاتحاد, بل لكون أوروبا الموحدة أصبحت تحكم بنظام "الشنغن" المزيل للحدود أمام مواطنيها من كافة الأعراق والأديان.
ومن السذاجة أن يُراهن على تفريط أوروبا في صيغة اتحادها، الذي وضعها لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى على سوية واحدة مع حليفتها أميركا, بل وجعلها تملك ألا تشارك حليفتـَها "المتنمرة" مغامراتِها الفاشلة, دون أن تفقد ميزة سير "المتنمرة" أمامها في حروبها هي, كما يحدث في شأن أوكرانيا.
وهذا تثبته سلسلة الاجتماعات الاستثنائية التي عقدت أو جرت جدولتها لوزراء خارجية وداخلية دول الاتحاد الأوروبي مضافا لهم وزراء كنديون وأميركيون, وتؤشر على إجراءات مستجدة، أولها -والذي يُتوقع إقراره- نظام "سجل المسافرين" الذي يتيح معلومات عن المسافرين على الخطوط الأوروبية أو إلى مدن أوروبية على خطوط طيران أخرى.
وهو النظام الذي أعدته المفوضية الأوروبية قبل ثلاث سنوات، ولكن لم يقره البرلمان الأوروبي لغلبة الاشتراكيين والليبراليين والخضر عليه، وإقراره سيكون مؤشراً على تغير "الاصطفافات" المشار إليها, ليس داخل فرنسا وألمانيا فقط بل وداخل أوروبا كلها.
ويستحيل أن يجري التدقيق في من يركبون طائرات الخطوط الأوروبية أو يدخلون أوروبا جوا بجوازات سفر تحمل تأشيرة "الشنغن", ولا يجري التشديد على من يدخلون دونما تأشيرة أو حتى دونما جوازات وهويات تتيح تفقد سجلهم الأمني براً، أو بحراً في قوارب باتت تسمى "قوارب الموت".
وعذر الأوروبيين في التشديد على هؤلاء قوي هذه المرة, فالموت بات يأتي مواطنيهم مع أولئك المهاجرين. ولا تفيد إحصاءات أعداد ونسب من يهددون الأوروبيين من بين هؤلاء المهاجرين للدفع برفض هذا التشديد؛ أولاً لكون ثلاثة مهاجرين أمكنهم حصد أكثر من "دزينة" أرواح في هجوم واحد على مكان محصور, فكيف إن تم هجوم على مكان عام مزدحم مما تزخر الذاكرة الحديثة به, كمحطات القطار؟! وثانياً لكون تبين أعداد ونسب الخطرين يأتي بعد وقوع الخطر ولا يمكن التنبؤ به.
والتنبؤات ترجح زيادة كبيرة في المخاطر لكون جهات مسلحة ومدربة وممولة عالياً وبقواعد جغرافية تتحصن فيها وتنطلق منها (تجاوزت تورا بورا إلى شرق سوريا وغرب العراق ومناطق عدة في شمال أفريقيا القريب من أوروبا، وصولاً للجزيرة العربية بأقصى جنوبها في اليمن, وبؤر أخرى في العالم العربي والإسلامي) تهدد الآن ليس بـ"إرسال" مجاهديها إلى أوروبا وأميركا، بل بتفعيل عناصرها الكامنة داخلهما في شقة أو غرفة لا أكثر, أو تجنيد عناصر جديدة من بين شباب ذوي بُنى نفسية هشة لأكثر من سبب تجعلهم صيدا سهلا لمختلف أنواع التطرف.
ولا ننسى أنه قبل "عولمة الإسلام المتطرف", كانت تظهر جماعات دينية متطرفة في أوروبا تستقطب الشباب تحديدا, ومنها ما انتهى بانتحار جماعي لأعضائها.
وما تقفز أوروبا وأميركا عنه - بل وتتواطآن على تكريسه- هو أسباب هذه الهجرة ومنابع التطرف المتمثلة في الإفقار والقمع نتيجة غياب الديمقراطية في بلاد المهاجرين الأصلية.
أي غياب الحقوق والحريات بما يتيح تفاقم الفساد وتفاقم القمع لحماية نفوذ الفاسدين الذي وصل بعضه إلى سادية يمارس فيها التعذيب كغاية لذاته على أيدي أجهزة أمن الأنظمة! وتغض تلك الأنظمة الطرف عن هذه الممارسات لكونها تأمر بمثلها, بل وتبحث عن الساديين والفاسدين، وتُبعد أو تصفّي معنويا أو جسديا من يكشف تلك الممارسات ويحاول وقفها.
وهذا موثق بكثافة لدى منظمات حقوق الإنسان في أوروبا وأميركا, بما فيها التابعة للحكومات أو الممولة منها ومن أحزاب رئيسة فيها, وتزايد ذلك مؤخراً بعد ثورات الربيع العربي.
ولحين نجاح تلك الثورات أو إحدى سلاسلها التي تتجدد في كل قطر ما بين وأد ثورة وولادة أخرى, فإن أغلبية البشر المفقرين والمضطهدين يلجؤون إلى الحل الغريزي الذي تلجأ إليه كل الكائنات الحية, وهو الهرب من الخطر الذي يهددها.
وأول ما يخطر على بال الناظر حين يرى مجاميع من أية كائنات تندفع عدوا أو تطير باتجاه واحد, هو أن خطرا ماحقا يتهددها في الجهة التي تأتي منها, أقله الجوع.
ولكن حتى هذه الملاحظة البدهية تغيب في تواطؤ عجيب من قادة الغرب الديمقراطي المنافح عن حقوق الإنسان وحرياته, ووصل الأمر حد المأساة/المهزلة (التراجيكميديا) حين شاهد العالم عدداً ممن غالوا في هدر دماء وحقوق وحريات وكرامة مئات الألوف أو الملايين من البشر, يتصدرون مسيرة باريس "الرسمية" لدعم "الحقوق والحريات وإدانة الإرهاب"!
وكان يمكن ببساطة أن يقال لهؤلاء إنهم غير مرغوب فيهم, فهذه أسهل من قولها لراكب قارب الموت أو الأعزل العابر الحدود المقفرة الخطرة أو المحمية بمسلحين, أو حتى ملتمس الفيزا الواقف على أبواب السفارات!
وأغلب الهجرات من العالم العربي الغني بثرواته (باستثناء جزر القمر إن صح ما ينقل عنها) ومثله العالم الإسلامي الذي نعرف, تأتي نتيجة "إفقار" أغلبية الشعب. ورد الفعل البشري الجمعي تجاه حال كهذا تمثل تاريخيا في خيارين: الأول القيام بثورات "اشتراكية" تسترد الثروات من الفاسدين وتؤمم ما جرى بيعه في صفقات فاسدة للشركات الغربية.
وهذه كانت سمة أغلب -إن لم يكن كل- الثورات التي تزامنت مع أو تلت الحربين العالميتين وخاصة الحرب الثانية, وألزمت بانحسار الاستعمار الكولونيالي المباشر عن أغلب المستعمرات.
وجزء كبير من تلك الثورات نجح لوجود حليف دولي للثوار تمثل في روسيا، التي جرت فيها أول ثورة اشتراكية ناجحة امتدت جغرافياً لتصبح "الاتحاد السوفياتي".
ولكن الغرب استهدف روسيا التي تحالفت معه على النازية وكان لها فضل هزيمتها, وقبلها هزيمة نابليون بونابرت، الذي قلَب ثورة فرنسا التاريخية إلى مشروع إمبراطورية له.
وخاض الغرب حربا باردة مع الاتحاد السوفياتي بحجة الدفاع عن الحريات, واستقبل في هذا السياق لاجئين كُثرا أغلبهم من النخب (كتاب ومفكرون ومثقفون وفنانون) اغتنت بهم أوروبا, وأكثر منها أميركا التي كانت تفتقر إلى العراقة الحضارية الثقافية التي تتمتع بها أوروبا.
والغرب هو من سخّن تلك الحرب في البلاد الأبعد عن روسيا بتواطؤه ضد ثورات شعوبها, ووصل التسخين إلى مجازر في مواقع كأميركا اللاتينية وأفريقيا وفلسطين.
وحيثما كسبت أميركا وأوروبا الحرب كان هذا "الكسب" يتم بتغليب وتنصيب دكتاتوريات فاسدة أوصلت القارتين إلى ما هما فيه لحينه (رغم نجاح بعض الثورات مؤخرا في أميركا اللاتينية)، وتُنتَج جماعات دموية تقتتل تحت كل مسمى بدءا بالقبلية والديانة (أو زعمها بالأحرى) ووصولا إلى العصابة! واحتلال فرنسا ذاتها -الذي شمل أكثر من غيره العديد من دول أفريقيا- يؤشر على مسؤوليتها المباشرة عن أوضاع تلك الدول الآن.
وغني عن القول إنه بعد سقوط الاشتراكية في عقر دارها -وما تلاه من عولمة أتاحتها قفزات في تكنولوجيا الموصلات والاتصالات، استثمرها الغرب لتكريس هيمنته الاقتصادية لكونه ملك امتياز السبق منذ العهد الكولونيالي- لم تعد هنالك جدوى للحديث عن الاشتراكية, ناهيك عن التفكير في ثورة اشتراكية.
وأقصى ما يطرحه "اليسار" الآن حقيقة هو استلهام للقيم الليبرالية الأصل (وهي غير نقيضتها النيوليبرالية)، التي تقول إن حقوق الإنسان لا تقتصر على حاجاته البيولوجية، بل تتجاوزها إلى حقوق وحريات مثل حرية الرأي والمعتقد الديني والسياسي.
وسقوط الاشتراكية يقود إلى البديل الثاني الحصري أمام الشعوب المفقرة المضطهدة, وهو الثورة الليبرالية التي تطالب بكامل منظومة الحقوق والحريات هذه وتعتمد "التنوير" كأيديولوجية معاصرة لها. وهي ليست أفكاراً غريبة على عالمنا العربي الإسلامي ولا تتناقض مع مبادئ الإسلام، فقد قامت حركة "النهضة" في القرن التاسع عشر في مصر وسوريا الكبرى وامتدت إلى العراق والمغرب العربي, مستلهمة تجارب وفكر عصر التنوير الأوروبي وخاصة فكر الثورة الفرنسية, وكان من قادتها علماء مسلمون ومفكرون مسيحيون، والذي أحبطها هو الاستعمار الغربي وفي مقدمته فرنسا وبريطانيا! ومثل النهضة ثورات الربيع العربي.
ولكن ما يُضعف الليبرالية والتنوير هو ذات الغرب المفترض فيه أنه يجسدهما. فالعولمة كشفت تناقض الغرب مع قيمة الليبرالية بما يسقطه في نظر الشعوب العربية والمسلمة, ويسقط زعم الأنظمة التابعة للغرب أنها ليبرالية لتصبح أقرب للنكتة السمجة.
وكرد فعل أو تعويض عن عدم تمكن الشعوب من إسقاط أنظمتها -أو التصدي لقوى غربية معادية إلى حد العودة للاستعمار الكولونيالي بقوة الجيوش لا بقوة الحضارة والمدنية (الوسيلة التي سبق أن مهدت للاستعمار الكولونيالي), أو من باب اقتناص قوى تقليدية أو مستجدة فرصة للحلول محل تلك المنظومة الغربية الحاكمة لإمبراطورية بحجم الكرة الأرضية- جرى القفز لملء المساحة الهائلة المتاحة على النت, بطروحات تدغدغ العواطف الجمعية والغرائز الفردية لتجييش مقاتلين في مقدمة ما يظن كل طرف - وصولاً لأصغر طرف- أنها طلائع جيوش إمبراطوريته التي نضجت كتفاحة نيوتن وحان قطافها!
والجمهور المستهدف لا يقتصر على المهمشين في بلادهم، بل يتجاوزهم إلى المهاجرين الذين يعيشون حالة نفسية هشة نتيجة الاغتراب، لأن مشكلة المهاجرين إلى أوروبا هربا من الإفقار أو القمع ليست التمييز ضدهم في أوروبا وأميركا أو فقرهم، فمقارنة بحالهم في بلادهم هم هناك في نعيم.
وإنما مشكلتهم أنهم انتقلوا فجأة من حالة حضارية ومدنية لأخرى دون إعدادهم لها بشكل متدرج كما في حركات الإصلاح والتنوير الوطنية, حيث يتاح للجميع الوقت الكافي للتأقلم، كل بحسب سنه وجيله وعلمه وحتى عقله.
فليست هنالك مشكلة في بقاء الكثير من تفاصيل القديم الذي يُشعِر هؤلاء بأنهم في بيئتهم الأصلية وليسوا غرباء. والغربة وكل ما هو غريب يستنفر غريزيا رد الفعل الدفاعي أو حتى العدائي لدى الإنسان, وتحديداً الإنسان غير المثقف وغير المطلع -ولو نظريا- على التنوع الفكري والحضاري، وحتى المعيشي اليومي والمظهر العام (وقد يكون هو الأهم هنا) الذي لا يعني العداء.
أفضل الحلول بالنسبة للغرب - سواء لدرء خطر المهاجرين عنه أو لتحقيق قيم حقوق الإنسان لهؤلاء- هو أن يتيح لهم البقاء في أوطانهم حيث هم متأقلمون مع كل شيء, وألا تنقصهم (فيضطروا للهجرة) لا الحرية ولا الكرامة ولا لقمة العيش المصادرة من قبل مجموعة أقل من سكان عمارة شققية واحدة للمهاجرين.
والمشقة التي تتكبدها حكومات ومنظمات مجتمع مدني ومواطنون غربيون لدعم حقوق مواطنة مساوية للمهاجرين, تبدو أشبه بتبني هؤلاء لبضعة أيتام يأتون بهم من البلاد التي تشن فيها حكوماتهم حروبا تؤدي ليُتم أضعاف هؤلاء وتشريدهم، أو حتى قتلهم مع أو بدون ذويهم..!
كاتبة أردنية
توجان فيصل
إن أرادوا تجنب المتطرفين 1269