في حوار قادت إليه الصدفة، قال لي أحد الزملاء: إنه بعد أن عزل نفسه عن الأخبار المحلية والعربية والإسلامية والعالمية يعيش حياته باطمئنان ويكاد يمر بأسعد أيام عمره، لا تلفاز، لا راديو، لا صحف، وأحاديثه مع الناس لا تخرج عن تبادل التحيات والتوقف العابر عند بعض الخصوصيات التي لا ترتبط بالشأن العام من قريب أو بعيد، وقال إن أسوأ البشر -من وجهة نظره- هم أولئك الذين يجترّون في لقاءاتهم اليومية آخر ما قرأوه أو سمعوه عن المعارك الدامية هنا أو هناك . وقال أيضاً إنه كان قبل أن يلتزم هذا الموقف يعاني ارتفاعاً في الضغط ومن تصاعد في الحموضة ومن شعور بالضيق وانفلات معيار الغضب تجاه كثير من الأمور التي لا تستحق أدنى اهتمام، وإنه بعد أن أقلع عن متابعة الأخبار وجد نفسه في حالة من الصفاء النفسي والروحي، ولم يعد يرتكب تلك الحماقات التي كان يؤدي إليها الغضب والانفعال المصحوبان بضيق في الصدر واضطراب في المشاعر .
وعندما سألت هذا الزميل كيف يقضي وقته بعد أن أحاط نفسه بكل هذه الأسوار من العزلة القاسية؟ أجاب إنه يقضي الجانب الأكبر من وقته في العمل، وما يتبقى منه ينفقه في القراءة وأحياناً في مشاهدة الأفلام والمسلسلات التي لا تعكّر صفوه النفسي ولا تذكره بالواقع المرير، وأكد لي أن هناك سيلاً من هذا النوع من الأفلام القديمة والمسلسلات الاجتماعية التي تناقش القضايا العائلية وهموم الطبقة الوسطى التي بدأت تنقرض وتتحول إلى طبقة دنيا بعد موجة الإعلانات الملّونة والانفتاح الاقتصادي وامتلاء الأسواق المعولمة بما لم يكن في حسبان علماء الاقتصاد وعباقرته منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، وما نتج عن هذا التحول الرهيب من عجز الأسر المتوسطة عن مواجهة الأعباء المترتبة على هذا التحول .
وبعد أن كاد الحديث يخرج بنا عن الموضوع ويتشعب إلى قضايا أخرى تركت الزميل وعدت إلى المنزل لأستعيد في هدوء ما دار بيننا ووجدت نفسي في البداية مقتنعاً بموقفه أو بالأصح محاولته الفرار من ضغوط الواقع كما تعكسها الأخبار التي تهبط علينا من الفضاء وتحاصرنا جميعاً في مقر العمل وفي المنزل وفي أي مكان يجتمع فيه اثنان أو أكثر . ولا أخفي أنني ترددت كثيراً عن الإمساك بمفتاح "التلفاز" لمتابعة آخر ما في جعبته من أخبار النهار، لكنني هجمت عليه ونجحت في اللحاق بالخبر الأول وكان عن سوريا عن المذابح التي لم تتوقف والتي يبدو أنها لن تتوقف . كما كان الخبر الثاني عن العراق وعن الدماء التي تسيل هناك، وحيث كل فريق يتباهى بما ألحق بخصمه من خسائر في المال والرجال، وقبل أن ينتقل المذيع الهمام إلى أخبار ليبيا سارعت إلى إقفال التلفاز وبي رغبة إلى عدم العودة إلى فتحه من جديد مهما كانت دوافع الفضول ملحّة لمعرفة المزيد من أخبار عالمنا البائس .
إن الأمة العربية تمر الآن بكارثة عاصفة، كارثة من طراز جديد وفريد وسواء تابعناها عن طريق وسائل التوصيل المختلفة أو عن طريق المشاهدة المباشرة أو تجاهلناها فإنها سائرة إلى هدفها الخبيث بموافقة علنية أو ضمنية من القوى المهيمنة على العالم ومن معظم قادة الأمة العربية والقائمين على شؤونها في المرحلة الراهنة، ولزميلي المنعزل عن الأخبار أن يغمض عينيه ويغلق أذنيه أو يفتحهما فلن يغيّر ذلك من الأمر شيئاً . فالواقع يكتب في كل لحظة وثانية بالدم القاني سطوراً تضاف إلى مسلسل الكارثة ولا عزاء للشعوب المعرضة للفناء بأيدي أبنائها البواسل .
الخليج السعودية
د/عبد العزيز المقالح
الناس وأخبار الوطن العربي 1290