صعب أن تكتب عن مصاعب واجهتها في أصعب اللحظات، أتت إليك على عكس ما تشتهي سُفن أهدافك.
المشاعر متناقضة إلى حد المزج بين التنافر والتجاذب ،بين التداخل والافتراق، بين الواقع والخيال ،بين الحضور والغياب .
لا أكتب عن مشاعري حين أكتب؛ أكتب عن حال وواقع أعيشه ومعي الجميع ،أكتب عني وعنكم في زمن نحن فيه.
لحظات أكثر من صعبة حين كتبت ،وحين تقرأون، لا شيء في هذا الوطن يتغير نحو حالٍ أفضل، الأفضل أني اكتب ما في دواخلي وكل ما هو حدث ويحدث لأزفر بآهات لا تنتهي.
لحظات أكثر من صعبة حين تقوم مليشيا مسلحة بتغييب الدولة وتصادر مؤسساتها وتطمس كل معالم الحياة المدنية فيها في ظل تواري قوات الجيش والأمن وانهزاماه واختفاءها من المشهد.
قلمي حزين الآن ،فلا تنتظروا منه أن يخط أكثر من واقع تتسع فيه دائرة الحزن والحسرة والندامة على حساب أي شيء آخر ،لم أعش لحظة كتلك التي أعيشها الآن.. بالمختصر أنا غير موجود!...لا تسألوني كيف!! فموطني غاب ومعه غبت.
لن أعود لسعادتي حتى أستعيد الذي غاب وحتماً سيعود.. سيعود بالتعاون بالوقوف جنباً بقول (لا) في وجه مغيبي الدولة ومصادري الوطن.
الآن الدقيقة الأولى من اليوم الجديد، فالسابق قد غادرنا قبل قليل بجرس الثانية عشر ليلاً، غادرنا على غير رضى منه ،قضيت تفاصيله متناقض بيني وبين ما أريد ،لست أنا المتناقض إن أردتم أن أكون دقيقاً فيما أكتب ،الواقع هو من بدى متناقضاً على ما يبدوا.
سأكتب كل حرفٍ فيّ ..فلا تنتهوا من قراءتي حتى أنتهي.
بطريقة أخرى أكتب هذه المرة لأن كل شيء قد طاله التغيير.. حتى حياتنا هي الأخرى تعرضت للتغيير وبتنا كأننا بلا ماضٍ ولا تأريخ، ولا جذور ممتدة إلى ما قبل نشأة الحضارات!.
أجدني في زمان غير زماني ،ومكان غير مكاني ، وموطن غير الموطن الذي عشت فيه من يوم أتيت.
هل أنا في اليمن الآن؟!.. نعم.. هل هو ذاك اليمن التاريخي الذي عرفته البشرية من يوم خُلقت؟.. لا ... ما الذي تغيّر إذاً؟!..
تغير الكثير والكثير؛ صحيح أن الأرض هي ذات الأرض والعلم هو ذات العلم ــ على الرغم من مزاحمة أعلام ورايات له ترفع في حضوره ــ ومؤكد بأن التأريخ لن تطمسه غبار الرياح العاتية التي تعصف بموطنه، لكن شيئاً مهماً قد تغيّر.
حاضره هو من تغير إلى فعلٍ ليس بالماضي ولن يكون مستقبلاً، هو شيء من العبث المتعدي لكل الأفعال والأزمان.
أعود للكتابة والألم المصاحب.. أعود للقلم الحزين لأقرأ ماذا سيكتب.
أحاول استحضار كل شيء جميل فلا أستطيع ،الوقت قد تغيّر والزمن غير زمن الدولة والواقع غير واقع النظام والقانون.
عن أي شيء جميل تتحدث ...لا تنتظر الجميل الآن ،فأنت في عهد حكم المليشيا!!
مليشيا تحكم ..نعم تحكم !!
تحكم وطن اكتشف الديموقراطية واحتكم لها قبل أن تولد جمهوريات الحرية وممالك العبيد.
مليشيا مستأجرة تحكم بالانتقام وتقاول الموت وتبيع التأريخ وتشتري الفوضى .
تحكم بلد أدار الدولة قبل أن يعرف الآخرين مسمى الدولة، مليشيا تحكم بلد تأريخه كله حضارة تأريخ سبأ وحمير ومذحج وذي ريدان وتُـبّع.
لا شيء جميل يُمكن استحضاره هنا ...الحزن على الواقع هو سيد الموقف ،ففي الأثناء واقع غير متجانس بحيث لا يمكننا معه التوأمة بين بلد حضاري وحُكّام أقل درجة من القرود!!
غير مرتبه الأفكار التي أكتبها الآن ،فالفوضى تملأ أسُطري ،كانعكاس للفوضى التي تتحكم بالمشهد من حولي ،فلا تلوموني أنا.. لوموا الواقع إن شئتم أو ذاك الذي يُسيّر حياتنا بالفوضى.
ابتعد بتفكيري عن ضغط اللحظة ،استعيد ساعات اسمها اليمن السعيد كتبها "مروان الغفوري "عن لحظات سعيدة عشناها مع المنتخب الوطني وجمهور عشق الوطن وتوشح علم بلده وهتف( بالروح بالدم نفديك يا يمن ) على الأراضي السعودية ،استحضر هذه الصورة الجميلة ،لكن صورة أخرى تزاحمها في السطو على التفكير.
تتراءى أمامي صور الملاعب اليمنية التي حولتها مليشيا الموت إلى ثكنات عسكرية لمسلحيها ،ومعتقلات سرية تسجن فيها كل من يحب هذا الوطن ويهتف باسمه و يرفع علمه كهوية تعبر عنه.
أقرر أن أقرأ رواية تبادل الهزء لمحمود ياسين لأكون في الصورة ،فتلوح أمام أعيني صورة الواقع متناقضة بين حاضر وطن وماضيه.
أحاول أن أقول الشعر فإذا بي حروفاً مبعثرة بين (يمن) حلمته وواقع أرفضه.
"حزين" ولا شيء يذهب عني الحزن!!
أكتب على أنغام "تحت أمرك يا وطن" أهرع للبحث عن الوطن لأستجيب لندائه فأجده قد تصادر من أسراب كائنات تلتهم الجغرافيا وتحاصر الأحلام وتفخخ الأمل وتقتل أنفاس الحياة .
وطن تصادر.. باعه رئيس خائن ،وسابق متآمر منتقم ،و ساسة خائرون.
وطن اشترته مطامع سوداء (معممة ومعقلة )وباتت تعبث به عن طريق عملاء لا يُجيدون غير الهدم ونشر الفوضى وتوزيع الموت.
قلمي حزين لأن لا بارقة أمل تلوح في الأفق ،فالمنتقمون يمارسون انتقامهم تحت الضوء وبلا خشية أو وجل ،والخونة يبيعون بأثمان بخيسة ، والطيبون لم يعودوا موجودين.
"حزين" قلمي لأن من يمتهنون العمل به يُلاحقون في كل مكان حتى لا يكتبون الحقيقة ولا يُسّطرون الواقع السيئ.
قلمي حزين لأني بلا مستقبل أصنعه ،ولا حاضر أتحكم به ، ولا ماضٍ أحافظ عليه ،فالمستقبل تصادر مع أول طلقة اغتالت روح الوطن ،والحاضر تعبث به جماعة الموت ومليشيا النهب ،والماضي وطن بهياكل مؤسسات تكفلت المليشيا بوأده، وتأريخ شوهته فوهات البنادق، وحضارة خُدشت صورتها بأفعال القُبح التي تنتهجها غرائز الانتقام.
قلمي حزين لأن الأحزاب توارت واختبأت ولزمت الصمت إلاّ من بيان مستحٍ تصدره وتلحقه بنسج خيوط تواصل مع مليشيا حاكمه .
قلمي حزين لأن الدولة سلمت واستسلمت وسلمتنا لقمة صائغة لمقاولي الموت تلتهم ما تبقى لنا من حياة.
قلمي حزين لأننا من سلمناه قيادة البلد ،سلمنا والبلد وهزمنا وانهزم ،أضاع الوطن وتمسك بمنزل يختبئ فيه.
يحاصرني الحزن حين أجدني أرفض الواقع من غير سند سياسي أو غطاء حزبي كمواطن بسيط أقف وثلة من الشباب المتعطش للحرية في وجه القُبح ،نرفض الفوضى والتشظي ونحاصر الظلام ،في حين دوائر الضوء تسلط أشعتها علينا وتحاصرنا بالأسئلة ،هل حقاً نحن ثائرون بالفطرة أم أن هناك من يدعمنا ويمدنا بوسائل البقاء !؟.
أجدني حزين ومعي رفقائي حين نتحدث عن الحرية والآخر يتساءل عن تبعيتنا لمن!!
نرفض الواقع فيما الآخر يبحث عن واقعنا نحن.
حزين حين أراني محاصراً بين مواطن لا يهمه من يحكم ،وآخر يريد أن يعيش ،وثالث يحرص على محافظته على فرصته في الحياة ،وذاك الذي يريد تسيير تجارته دون أن تُمس مصالحه بسوء ويتنازل من أجل ذلك بكل شيئ ،وآخر قد ألف الواقع واستحسنه ،واحتكم إلى من يتحكم به.
حزين قلمي من واقع يحاصرنا فيه الموت من كل مكان ...من واقع أكاد أن أقول فيه ليتني لم أعيشه ،أتمنى لو استطعت الذهاب إلى إجازة من الحياة لأعود بواقع جديد لفعلت!!
قلمي حزين ليس خوفاً أو استسلاماً أو تسليم ،وإنما حسرة وندامة وتأسف لما آلت إليه الأمور.
حين أكتب الحزن لا يعني بأن هذا الحزن سيحاصرني عن فعل فعل ،فالحزن لا يعني التوقف عن الحياة.
لن أدع الحزن وحده من يتحكم بي ...سنرفض الواقع وسنسعى إلى تغييره ولن يستقر لنا بال حتى يتحقق لنا ذلك ،لن نستكين لواقع ،ولن نخاف من موت ،ولن تخيفنا قوة غير قوة الله ..مشروعنا حياة ولأنه كذلك سينتصر.
لقد أعلنا الرفض في وجه هذا الواقع ،وسنصرخ في روح اليمنيين باعثين فيهم معاني الوطنية وهوية اليمني الأصيل ،وسننتشل وطننا من مستنقع الطائفية وبرك الدم ومأزق الانتقام.
سنقول (لا) للمليشيا والفوضى والعبث والفساد وتغييب الدولة .
سنستدعي الوطن المغيب ،وسيعود يمناً حلمنا به لا ذاك الذي تحكمه جماعات الموت الآن.
سيعود الوطن وبعودته ستعود تلك اللحظات السعيدة التي ودعتنا ،حينها سيغادرنا الحزن وسنبتسم لليمن وستبتسم لنا.
محمد محروس
لحظات أكثر من صعبة!! 1308