يتداعى المتساقطون في هوة الخيانة لإحراق بقية شرف وحيادية الجيش اليمني كما تتداعى الأكلة على قصعتها !
يطالبون بدمج الميليشيات المسلحة في الجيش , متناسين ما حدث في الأمس القريب يوم تهاوى هذا الكيان الهشُّ في وجه الغزو وسلَّم عاصمة البلاد غنيمة باردة , في ساعة نكوص وطني مريرة!
كانت الميلشيات تنتشر على خارطة العاصمة بسلاسة ويُسر , فجأة تلاشت بقع الجيش الخاوية التي كانت قريبة , وتركت الساحة للقادم من بؤرة الماضي ليسحق منجزات التحضُّر والمدنية التي بذل الشرفاء أرواحهم الطاهرة ثمناً لها , انسحبوا جميعهم , بشتى توجُّهاتهم و خلَّفوا وراءهم أحلام الشعب ممزقةً أشلاءً تحت أقدام الزحف القادم , يا لها من جريمة لن يغفرها لهم الوطن!
قبل بروز هذا المتغير المباغت المروِّع , يصرِّح هادي وعلى الملأ " أن الجيش اليمني مُخترَق " !
جيش يبلغ نصابه قُرابة نصف مليون فرد , تغيَّب عن مهمته الرئيسية في حماية الحدود" سيادة الدولة الخارجية " وتشرذم كمفرقعات خاوية في وديان الفرق المتشعثة ؛ ليس مستغرباً أن يسقط هذا السقوط الكبير!
اليوم ينتزع المنادون بدمج كافة الميليشيات الخارجة عن الدولة في الجيش آخر بقعة حياء من جبين وطنيتهم المقدوحة ؛ بمجاهرتهم بهذا المطلب غير المنطقي !
يريدون أن يقضوا على ما تبقَّى من وطنية وصدق هذا الجيش المريض!
الجيش اليمني يعاني من علل شتَّى أودت به إلى محرقة التشظي , وتعدُّد الولاءات ,
ومن أبرز هذه العلل هيكلته القائمة على أساس مذهبي وحزبي , و تركُّز مناصب القيادة الحساسة في يد عائلات محددة , قيام قطاعات منه بحماية مصالح خاصة للشخوص والأحزاب, علاقة البعض من القيادات الكبرى فيه بقوى خارجية , ضعف التوزيع العادل فيه بين المحافظات , استشراء الفساد الإداري والمالي في معسكراته , إهمال أوضاع الأفراد في المستويات الدنيا وقلَّة دخولهم , ضعف رواتب المرابطين على الحدود ؛ بل ونهب أغذيتهم وتجويعهم وعدم الاهتمام بتقديم أبسط وسائل العيش لهم, فضلاً عن بذل رعاية صحية مناسبة لهم ممَّا يتسبب في تسرُّبهم وتهرُّبهم من التواجد في مواقعهم , وأمور أخرى جلية وخفيَّة صيرت هذا الجيش قنابلَ موقوتة تتفجر كل حين في مواقع شتَّى لتشعل البلاد وتزيد من ضعف الدولة , غدا جيشنا الوطني جزءاً من المشكلة بدلاً من أن يكون جزءاً من الحل , ولاءاته متفرقة , كيانه هشُّ ومتصدع , معنويات أفراده منخفضة للغاية , أهدافه غير صادقة ولا متوافقة مع أهداف وجوده , عدده كبير,وعدَّته خردة صدئة ومهامه شكلية !
المطلوب ليس إعادة هيكلة هذا الجيش المعتل الرأس والحواشي فقط , بل ينبغي لاستئصال علله نزع العديد من أجزائه من أماكنها , وإعادة غرسها في مشاتل أخرى لعلها تستحيل إلى شجر وارفة الظلال تثمر خيراً لهذا الوطن !
ترد مقترحات عدة لتصحيح وضع الجيش اليمني , وتظهر على السطح مطالبات صادقة في مراحل ماضية من عمر الدولة اليمنية الأخير , بأصوات خافتة وبأهداف مختلفة , وأما النوايا فشيء غير محسوس ليس لنا محاكمته !
الجيش كيان معتل منذ زمن وهذه مسلَّمة لا يجادل فيها أحد؛لكنه أيضاً رمز وطني يمثِّل قيمة عظمى لليمنيين , وهو ضرورة من ضرورات بقاء سيادة الدولة , ويمكن لأي أحد أن يقذف المطالب بتفكيك بعضه بِتُهم مقذعة ؛ لذا يتوخى الكثيرون الحذر من المجاهرة بهذا المطلب ؛ لكن حينما تتحول العديد من أجزاء هذا الجيش إلى عصابات تأكل وتثرى بدورها الغير قائمة به على موائد حزبٍ ما أو جماعة أو قائد ثري أو دولة مجاورة , أو أي قصعة لحم تقدَّم لبعضهم فيبيع بها وطنه وسيادته , هنا يغدو الصمت كُفراً !... كُفراً بحق وطن غاب عنه حُماته يوم الحاجة الملحة وباعوه بثمنٍ بخس !
وهنا تبرز معضلة مؤرقة , سقطت الدولة بسقوط الجيش , ترى لماذا؟!
مهمة الجيش حماية الحدود " السيادة الخارجية " فلماذا كان له دور في سقوط سيادتها الداخلية ؟!
ذلك يا سادة لأن فصائل عدة من هذا الجيش تركت مهمة حراسة السيادة الخارجية التي " لا تؤكِّل عيش" وانخرطت بدلاً من ذلك في لعب دور حماية السيادة الداخلية حيث تتكاثر بؤر النزاع , والتقاسم المخزي لمُقدَّرات البلد , وجريان الأرصدة المهولة في جيب قائد هذا المحور أو ذاك ..!
للأسف يا سادة إن ما يؤلم حقاً هو أن الجيش اليمني ليس مخترقاً فحسب ؛ بل هو محترق في أتون العمالة وبيع الولاء الوطني للشخوص والرموز والأيدلوجيات والمال ..!
الحلول موجودة , وكل مخلص محب لهذا الوطن يمكنه أن يقترحها ؛ لكن التنفيذ لها هو ما يستلزم إدارة قوية وإرادة سوية !
وفي الآونة الأخيرة برزت تساؤلات: لماذا لا يتم تطبيق مبدأ التداول بين قادة الجيش ؟
وماذا لو تم تدويل الأفراد أيضا لتفكيك ولاءاتهم الضيقة ونزع نفوذ قياداتهم المؤدلجة؟
وماذا لو رفعنا رواتب المرابطين على الحدود لتحفيز الكثيرين للذهاب إلى هناك حيث يمارسون دورهم الحقيقي في حماية سيادة الدولة ؟
ثم ماذا يصنع ويقدم للوطن جيش قوامه نصف مليون فرد ؟ لماذا لا يتم إحالة نصفهم للمعاش , ومنحهم الحق في الانخراط في الوظائف العامة إن كان السن والمؤهل يسمح بذلك ؟
ولماذا لا تتحول القواعد المرابطة قريبا من المدن إلى ورش مهارية تُحيل هذه الأيدي المعطلة عن العمل إلى أيدٍ مُنتجة مصنِّعة كما فعلت غيرنا من الدول العربية؟
والمتابع الحصيف يرى أنه يمكن فعل الكثير لتصحيح وضع الجيش اليمني , بدلاً من إبقائه وقوداً لأزمات متلاحقة , بل لابد من المسارعة إلى القيام بهذا التصحيح لمحو وصمة الخزي التي لطَّخت جبينه في الآونة الأخيرة حتى غدت صورته في ذهن الكثيرين من أبناء الوطن عدواً مبيناً وشراً مستطيراً !
أما إن تم الرضوخ لمطالب المنادين بدمج الميليشيات المسلحة في الجيش فإن ذلك سيؤدي إلى تجذير وتعميق مشاكله وتفاقم علله , ويعمد ــ بقصد أو بغير قصد ــ إلى غرز المسمار الأخير في نعش هذا الجيش !
نبيلة الوليدي
المسمار الأكبر في نعش الجيش ..! 1277