دائماً ما أتحدث أن الذي يقرأ المشهد اليمني من الداخل فقط دون النظر إلى الاستراتيجيات الخارجية والتقاسم العالمي للمنطقة يخطئ كثيراً في التقدير، ففي ظل الوصاية الدولية يظل مضمار السباق بين المتنافسين في مَن يقدم خدمات أكثر تماشياً وانسجاماً مع مصالحها ومشاريعها في المنطقة وبغض النظرعن نقاط الاختلاف والاتفاق في الأيدولوجيات والسياسات عند المتنافسين إلا أن شلالات الدماء التي تثعب من أوداج اليمنين هي الثمن المتفق عليه وسيظل الغطاء الساتر لعمليات الإجرام هو محاربة الإرهاب والقضاء على جماعات العنف, فبعد أن أحتدم الصراع في محافظة البيضاء لعدة أسابيع تم اعلان مليشيات الحوثي المسلحة رسمياً انسحابهم منها، ومع أنهم خرجوا منها بخُفَّي حنين حسب ما تردده قيادات القبائل، وهذا الأمر قد يكون صحيحاً إذا ما قارناه بالخسائر والتضحيات المادية والبشرية التي فقدتها المليشيات؛ إلا أنها حققت منجزات كبيرة لطالما حلم بها الحلفاء الاقليميون والدوليون، والرعاة الرسميون لهذا المضمار التنافسي ومن أهم المنجزات الدخول والشراكة الإقليمية والدولية في مكافحة ما يسمونه بـ"الإرهاب" قتل العديد من الشباب الذين يصنفون عالمياً ودولياً بالانتماء لجماعات العنف والإرهاب من بين أولئك الشاب شوقي البعداني المعروف بخولان الصنعاني والذي تقول عنه الخارجية الأمريكية بأنه تولَّى مهمة استهداف السفارة الأميركية في العاصمة اليمنية صنعاء, وأنه كان على اتصال بالانتحاري الذي قتل أكثر من 100 جندي يمني في الهجوم الذي وقع في مايو 2012، وأنه لعب دوراً رئيسياً في التخطيط لهجوم كبير في صيف 2013م الذي أجبر الولايات المتحدة على إغلاق 19 منشأة دبلوماسية في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا والذي تم القضاء عليه في هذه الحرب المسنودة بالطائرات بدون طيار الأمريكية والطيران الحربي اليمني وكذلك تم القضاء على قيادي آخر لا يقل خطراً عن البعداني وهو نبيل الذهب الأخ الشقيق للقيادي في تنظيم القاعدة بجزيرة العرب طارق الذهب والذى قضى نحبه في 2011م وفي هذا الصدد تستعد مليشيات الحوثي المسلحة لمغادرة محافظة البيضاء التي تعد من المناطق الوسطى والقريبة من المناطق الجنوبية متجهتاً شرقاً إلى محافظة مأرب وكأنها تقول للقبائل ومقاتليهم بعد أن نجحنا في الامتحان الأول وتقدمنا خطوة كبيرة نحو ثقة الحليف لا يهمنا أن نبقى في رداع و قيفة وخبزة وغيرها للصراع معكم ومع مقاتليكم, وبالفعل فإن حرب البيضاء المدعومة أرضاً من سفن ايران بالأسلحة الخفيفة والثقيلة وجواً بطائرات أمريكا والطائرات الحربية اليمنية، أكسبت جماعة الحوثي ثقة الاعتماد عليهم في، محاربة الإرهاب الذي يهدد المصالح الغربية في المنطقة وأنها صارت قادرة على أن تقوم مقام الدولة الرخوة, وتأتي بوادر هذا التخلص في قرار مجلس الأمن الأخير بشأن اليمن والذي يقضي بتجميد أرصدت وأموال "صالح" وهو أحد المتنافسين الذين يعول عليهم للقيام بالمهمة نفسها، ويأتي تفوق المليشيات عليه بما تحمله من أيدولوجيات مناهضة للإسلام السُّني , إضافة إلى انفراط العقد من بين يديه، وتشظِّي الحزب الذي يرأسه ما جعله يصبح قوة مستهلكة يمكن الاستغناء عنها.
ومن أجل ذر الرماد على العيون وعدم فضح التعاون الخفي أدخل القرار الأممي اثنين من جماعة الحوثي في الحظر من السفر وتجميد أرصدتهم، وفي الحقيقة أن المتضرر من هذا القرار هو صالح فقط حيث يعتبر القرار إدانة صريحة تحمل في طيتها إعلان دخول منافس قوى على الساحة يقضي بخروج صالح أما المليشيات فبطبيعة الحال أنها لا تتضرر ولا تعنيها مثل هذه القرارات, لأنهم لا يعتمدون على عمل مؤسسي ولا تنظيمي ولا معاملات بنكية وهم في غِنى عن السفر والرحلات إلى الخارج، بل إن جماعة الحوثي برمتها وفقاً للقوانين الدولية والمحلية والدساتير تعد جماعة مسلحة خارجة عن النظام والقانون ولا يوجد معها إطار شرعي ولا قانوني لبقائها, فلاهي حزب سياسي ولا جمعية ولا منظمة ولا مؤسسة لذلك يصعب على مثل هكذا قرارات الإضرار بها، والمسوغ الوحيد للمليشيات هو ما تنجزه الان من انتصارات في الساحة المحلية، وتجييش الناس حول المشروع الفارسي لتصير هي ذراع أيران في خاصرة الجزيرة حسب التقسيم العالمي للمنطقة وغصة تهدد النفط والمال الخليجي.
ولاتزال التحركات الدراماتيكية مستمرة حتى اللحظة وانتقال الصراع من مكان إلى آخر فمن رداع وأيام القتال العنيفة التي شهدتها على مدى أسابيع في (منطقة خبزة) مديرية ولد ربيع (قيفة) التي أدت إلى نزوح المئات من أبناء المنطقة من أطفال ونساء إلى الجبال والكهوف بالمنطقة وإلى خارج مدينة رداع وخسائر فادحة في صفوف المليشيات الحوثية إلا أنها تُعد مقاتليها ومن أسمتهم بكتائب الحسين للتوجه شرقاً إلى محافظة مأرب.
وفي معركة مأرب لم يتبق أمام مليشيات الحوثي إلا الرئيس هادي وما تبقَّى من الدولة الرخوة في مضمار التنافس, فهادي ووزير دفاعه الجديد اللواء/ محمود الصبيحي رغم حديثهم الذي يصبُ في تطبيع العلاقة مع مليشيات الحوثي كونهم شركاء على أرض الواقع وسيسهمون في استقرار البلد إلا أن هادي في الوقت ذاته يقول إن محاربة الإرهاب وتأمين المنشأة وحماية المواطنين هي مسؤولية الدولة لا غير، وهذا يعني أنه موجود وسيسجل له وللحكومة الجديدة حضوراً مهما كلفهم الأمر.
ولذلك لاتزال مليشيات الحوثي تتجه نحو تفجير الوضع بمحافظة مأرب للغرض ذاته حسب زعمها تأمين المنشأة الحكومية وحماية المواطنين بواسطة لجانها الشعبية.
وعلى كلٍ سيبقى الوضع في مأرب محرجاً جداً بالنسبة للمليشيات في حال فجَّرت الصراع في مأرب لأن صراع مأرب ليس كغيره من الصراعات لأنه سيكون طويل الأمد يختلف باختلاف ما تملكه مأرب من موارد حيث تُعد محافظة مأرب الرافد المحلي الرئيسي للطاقة باليمن وترفد محافظات الجمهورية بنسبة تفوق 50% من المشتقات النفطية و 95% من الغاز، وتغطي العاصمة ومُدناً أخرى بالكهرباء، وهي اليوم على شفا مواجهات بين القبائل والحوثيين قد تحمل مخاطر غير مأمونة العواقب.
ونتيجة لوجود مفارقات بين البيضاء ومأرب تأتي صعوبة ذلك الصراع والثمن الباهظ الذي سيدفعه المتصارعون عموماً
مفارقات الصراع في مأرب
أولاً: ليس حكراً على مأرب
إن صراع مأرب لن يكون ضرره حكراً على مأرب فقط بل سيشمل أغلب محافظات الجمهورية حيث سيصيب الاقتصاد الوطني بمقتل وسيتسبب في عودة أزمة المشتقات النفطية الخانقة للمواطنين وانقطاع الخدمات كالكهرباء وغيرها سيما بعد تهديد القبائل بتفجير أنابيب النفط والغاز وقطع الكهرباء في حال دخول المليشيات المسلحة أراضيها, وهذا بدوره سيخلق غضباً شعبياً واسعاً على ما تسميه المليشيات بـ"الثورة" وباللجان الشعبية ويعيد الثقة بينها وبين المواطن البسيط إلى الصفر لأنها لم تجلب له سوى وعود كاذبة مغلفة بالويل وبالمزيد من التردي والتعثر في أوحال الفقر وانعدام الأمن بكافة أشكاله المختلفة.
ثانياً: سيكون طويل الأمد
بسبب وعورة المناطق وشراسة مقاتليها وتحصُّن مسلحي القبائل في شعاب المنطقة التي تمتد لمساحة شاسعة على الحدود بين البيضاء ومأرب , إضافةً إلى وحدة الموقف الرسمي والشعبي الرافض لدخول المسلحين واستعدادهم لخيار المواجهة سيطيل أمد المعركة، ومع وصول مليشيات الحوثي المسلحة إلى تخوم محافظة مأرب يستعد رجال القبائل في محافظتي مأرب والجوف لمواجهتهم بعد عقد اجتماع ضم العديد من قبائل المحافظتين وقَّع الحاضرون في الاجتماع الذي عُقد في منطقة السحيل بمحافظة مأرب على وثيقه تنص على التعاهد على مقاتلة المتمردين الحوثيين أين ما تمركزوا في محافظة مأرب أو الجوف، واعتبار العرض والأرض فيما بين أبناء المحافظتين وإقليم سبأ واحد وأنهم صف واحد في وجه الحوثي وغيره وأنهم سيدافعون عن مأرب حتى آخر قطرة من دمائهم ــ حسب ما جاء في المعاهدة.
لذلك تسعى المليشيات المسلحة إلى عقد اتفاقات مع بعض القبائل مثل قبيلة عبيدة تَنُم عن حُسن نواياه وتمهيداً للسيطرة والدخول دون استفزاز للقبائل.
ثالثاً: بداية انتهاء التحالف الداخلي
فهناك مؤشرات وتصريحات لبعض القيادات المتحالفة مع المليشيات تُظهر استياءها ممَّا يسمى بـ"اللجان الشعبية" سيما بعد الشعور بانتهاء المهمة وتأديب حزب الاصلاح الداعم لثورة فبراير وقد بدأت الإرهاصات على الساحة جليةً وتتمثل في حصول نتوءات في العلاقة مع الحليف الداخلي للمليشيات, فبعد وقوفهم موقف المدافع عن مؤسسات الدولة وإعاقتهم لمحاولة الانقلاب على حكم هادي والتعاون مع حكومة بحاح ربما هز ثقة الحليف صالح ما سيجعله يغير سياسته في مأرب عمَّا حدث في المحافظات السابقة .
وأياً كانت المآرب من مأرب فإن مليشيات الحوثي إن تركت محافظة مأرب بعيدةً عن أي حضور سياسي أو عسكري لها سيحوِّلها إلى نقطة ارتكاز قد تنهي سيطرتهم على العاصمة اليمنية صنعاء والقرار السياسي وفي المقابل هادي يدرك أن سيطرة المليشيات على مصادر الطاقة في مأرب تهديد صارخ ومؤشر واضح لاجتثاث ما تبقى من نظام صنعاء؛ لذلك قال محافظ محافظة مأرب الشيخ سلطان العرادة إن الرئيس عبدربه منصور هادي اتَّصل به وتعهد أن يكون معهم وأنه فخور بهم و أقسم بالله إنه لن يترك صنعاء إلا إذا خرج ميتاً منها.
ورغم أن هادي نجح في الزَّج بمليشيات الحوثي المسلحة في أتون حرب لا أمد لها وجعلهم في فوهة المدفع إلا أن ثمة مخاوف من تصدُّر المليشيات للموقف وتكوين دولة داخل دولة يمهِّد لها الإطاحة بما تبقَّى من مؤسسات الدولة, سيما بعد المفاجأة غير المتوقعة والتي فجَّرها حزب التجمع اليمني للإصلاح في الآونة الأخيرة من إبداء رغبته في التقارب مع جماعة الحوثي والاتفاق مع زعيم الحوثيين على طي صفحة الماضي وبداية صفحة جديدة بين الطرفين, وكان هذا القرار المفاجئ للقوى السياسية بعد قرار الانسحاب وعدم المواجهة عند اقتحام مليشيات الحوثي للعاصمة صنعاء حيث مَّثل هذا القرار إحراجاً للحكومة والرئاسة معاً.
وسيظل المواطن اليمني يدفع ثمن هذا الصراع ما بقي الارتهان للخارج، والله غالب على أمره وهو وحده المستعان.
بسام الشجاع
محافظة مأرب ومآرب الصراع؟! 1377