توهتنا السياسة في اليمن، وغرقنا في الحديث عن الساسة ومساوئهم، وتناسينا أن هناك في الجوانب الأخرى أشياء كثيرة تستحق أن نسلط الضوء عليها، لأن فسادها صار ينتشر بصمت ليعم كل حياتنا.. خصوصاً في التعليم والصحة والسياحة ومجالات التنمية والاستثمار الأخرى.
منشآت ومؤسسات استثمارية تظهر، كثير منها تؤدي عملها حتى بدون ترخيص رسمي، ورغم أنها تفتقد لأبسط معايير الأداء وضمان الجودة، لكن أصحابها لا يخجلون من وصفها ب(النموذجية والتخصصية والسياحية والحديثة والدولية)!
مدارس أهلية تستأجر بدرومات في بعض العمارات، وبعضها قد يتطور ليحصل على شقتين فوق الأرض بدون حوش، وتؤدي طابور الصباح فوق السطوح، وأكثرها تعمل بدون ترخيص، وبمدرسين لازالوا طلاباً في الجامعة.. ثم تجدها وقد رفعت لوحة عملاقة تصف نفسها فيها بالمدارس (الحديثة والنموذجية)!
ومثلها جامعات أهلية أصبحت تقدم جميع أنواع التعليم الأولي والعالي (ماجستير ودكتوره) بطريقة مخجلة ومنحطة، وتناقش فيها رسائل علمية لا ترقى حتى لمستوى بحث تخرج في جامعة حكومية.. دُعيتُ مرة لمناقشة إحدى تلك الرسائل فاعتذرت عندما وجدت الطالب قد اعتمد في كتابة رسالته على قرابة عشرين مرجع، فذهبوا بها لزميل آخر أعطاها تقدير امتياز مع مرتبة الشرف!
عيادات ومراكز ومستشفيات طبية تحول (ملائكة الرحمة) فيها إلى مصاصي دماء، كل همهم الأرباح التي سيتحصلون عليها من مرضاهم، وأصبحت المشارط في يد أطباءها لا تعرف إلا الحديث عن العمليات، حتى إن كانت حاجة المريض للعملية لا تزيد عن خمسة في المئة كما أخبرني طبيب يعمل في مستشفى خاص.
لم تعد تعرف مَن الطبيب الذي أجيز للقيام بعمليات جراحية فالكل صار يجري العمليات، ولا تدري ما هو التخصص الذي تخصص فيه، فكل واحد منهم صار بإمكانه أن يجري عمليات في كل أنحاء جسم المريض من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، وإذا فشلت العملية حملوا المريض فشلها، فالعملية نجحت والمريض انتقل إلى رحمة الله، وعلى أهله الذهاب لتسديد فاتورة العملية الباهظة ليتمكنوا من إخراج جثته.. وإذا شُكلت لجنة للتحقيق تستر (الأطباء) على بعضهم!
يذهلك سعر غرفة الرقود في بعض تلك (المستشفيات) رغم أنها تفتقد لأبسط الخدمات، ومستوى النظافة فيها صفر، وبعضها لا يوجد فيها حتى دورة مياه ويذهب المرضى إلى دورات مشتركة بين الرجال والنساء في الطواريد.. ثم لا يخجل صاحب تلك السلخانة من وصف مجزرته بأنها مركز أو مستشفى أو مجمع طبي (تخصصي)!، وبعضها لا يقنع إلا بوصف (الدولي)!
فنادق ومطاعم تواجهك القاذورات إلى بواباتها، وتستقبلك طوابير الذباب على مشروباتها ومأكولاتها، وقد تتملى عيونك بالصراصير وهي تزين الوجبات التي تقدمها لك، ثم تصعق وأنت تلتفت أثناء خروجك منها لتحفظ أسمها لتحذر معاريفك من الذهاب إليها وقد ذيلت اللوحة التي عليها الاسم بكلمة (السياحي)!
ضحكت مرة وأنا أقرأ عبارة (الدولية) على شركة خدمات تقبع في دكان بشارع فرعي، فسألت الموظف الوحيد الجالس في ذلك الدكان (الدولي) عن فروعهم في المحافظات اليمنية، وكذلك عن الدول الأخرى التي يتعاملون معها، فأجابني بأن الشركة هي كل ذلك الدكان، وعندما استفسرته عن وصف (الدولية) قال لي ببرود (قصدك من اسم.. كلهم يفعلوا هكذا)!
هذه بعض المبكيات المضحكات التي صارت تعج بها اليمن "وشر البلية ما يضحك".. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا: هل يوجد لدى الحكومة اليمنية معايير على أساسها يتم إطلاق مثل هذه الصفات على المؤسسات الاستثمارية في اليمن (دولية، نموذجية، تخصصية، سياحية، حديثة....إلخ)؟ وإذا كانت موجودة لماذا لا تطبق؟ وإذا لم تكن موجودة متى سيتم إيجادها؟!.
د. عبدالله أبو الغيث
كل ما في اليمن دولي ونموذجي! 1377