ثمة جنوح مراهق لدى بعض المحرِّضين المتباكين لإلقاء اللوم في أي قضية على الضحية، والهدف تسويغ مواقف سياسية أو أخلاقية أو فكرية، يتبناها هذا أو ذاك من الناس أو الجماعات، لكن أغلبية الناس المعنيين لا يقبلونها.
الضحية في معظم الأحيان الطرف الأضعف, على سبيل المثال هناك من يلوم المرأة ويُلقي عليها مسؤولية عدم حصولها على حقوق المواطنة كاملة.
وهناك من يلوم جماعة من البشر على عدم تحصيلها مبتغاها الاجتماعي. وكثيراً ما نسمع، الآن بالذات، في عصر النيوليبرالية أن العاطلين عن العمل هم المسؤولون عن ذلك، وأن المريض مسؤول عن سقوطه فريسة المرض، وأن الأمي مسؤول عن عدم تحصيله العلم، بل أن الفقير مسؤول عن كونه فقيراً.
وعلى الصعيد القومي، علينا تذكر كيف أن أنظمة "سايكس بيكو" كانت تُلقي على الفلسطينيين مسؤولية الكارثة الوطنية/القومية التي ألحقتها هي بهم، بالتواطؤ مع الاستعمار البريطاني، وتدَّعي أن الفلسطينيين باعوا بلادهم.
الآن القاهرة -على سبيل المثال- تُلقي باللوم ــ عبر إعلامها ــ على الفلسطينيين عموماً، وعلى غزة تحديداً، على تردِّي الأوضاع في البلاد وانتشار الأعمال الإرهابية. بل إن الحملة على غزة وصلت مستويات دنيا ما عاد حتى بإمكان سلطة رام الله السكوت عنها، فاضطرت أخيراً إلى الطلب من حكومة الرئيس السيسي التدخُّل لوقف التحريض على الفلسطينيين في الإعلام المصري، مع أنها هي نفسها من يُلقي على التنظيمات الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحررة مسؤولية تردِّي أوضاع شعبنا بدلاً من مراجعة سياساتها الخاطئة.
لوم الضحية أمرٌ مستهجَن ومستنكَر، ولومها وهي في أضعف حالاتها يعكس تردياً أخلاقياً مريعاً لا علاج له. لوم الضحية يعني بالضرورة الانحياز للجاني المعتدي ضد المعتدى عليه.
لنكن واضحين أكثر, الكيان الصهيوني معتدٍ على نحو دائم، حتى لو كان مدافعاً من المنظور التكتيكي أو التقني. فتأسيسه على أرض الغير، الذي هو فلسطين، وكل ما ارتبط بذلك من مذابح وتهجير وتطهير عرقي، عمل عدواني بامتياز. فهو أصل المشكلة ما يضعه في موقع الجاني.
هذا لا يعني الموافقة على كافة أعمال الضحية وتصرفاتها أو تسويغها. لكننا لن نلومها لأننا ننظر دوما إلى جذر المشكلة، ونبحث بالتالي عن حل حقيقي قائم على استعادة الضحية حقوقها، ليس أفرادا فحسب وإنما أيضا من منظور وطني شامل، كشعب.
الحملة على الفلسطينيين أخذت منحى مناهضا غير مسبوق إبان عدوان الخمسين يوما على الأراضي الفلسطينية المحررة، الذي وصل في وحشيته درجات أجبر حتى وزير الخارجية الأميركي على استنكاره، مما أدى لتصاعد التبادل اللفظي بين الطرفين وصل إلى وصف موقع للبيت الأبيض نتنياهو بأنه رعديد رخيص.
لم ولا ولن نطالب، باسم شعوب أمتنا، أيا كان بالوقوف إلى جانب قضيتنا العادلة بكافة المعايير، ﴿من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها﴾، و ﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها﴾.
ولأن الانحياز إلى جانب الجاني مشاركة له في العدوان، أي جريمة موصوفة، نقول: إن المرء السوي عليه الانحياز بالمطلق إلى جانب الضعيف ضد القوي، فكيف إذا كان ضحيةً ومظلوما!
سبق لي أن كتبت عن الموضوع في هذا الموقع عن التحريض المستمر على الفلسطينيين بالعلاقة مع الاشتباكات المسلحة التي تقع هنا وهناك في مختلف البلاد العربية. لكن التطور الجديد في الموضوع هو استخدام هذه الفزاعة لتمرير سياسات داخلية. فالمرء يلاحظ تجدد الحملة من أوساط مشبوهة في الأردن تحاول زرع رهاب الفلسطينيين والتحريض عليهم من خلال أكذوبة التوطين. المناسبة هي تصاعد حملة شعبية هناك تطالب بمنح التبعية لزوج الأردنية وأطفالها، أي بمساواتها بالمواطن الأردني.
النظام في عمان يرفض منح المرأة الأردنية حقوق المواطنة الكاملة، ويسوغ موقفه بأنه يريد منع التوطين.
من الأمور البديهية، لدى الكبير والصغير، أن من يريد منع توطين الفلسطينيين في الأردن، هذا إن أرادوا ذلك أصلا، لا يعقد الاتفاقيات والمعاهدات، العلنية منها والسرية، في مختلف المجالات مع المعتدي، أي الدولة اليهودية في فلسطين، التي وجودها هو المعيق الأول والثاني والثالث والمائة ألف، لمنع توطين الفلسطينيين ولاستعادة حقوقهم في وطنهم، كاملة غير منقوصة ذرة.
من هذا المنظور فإن معاداة إسرائيل وعدم الاعتراف بها يمثل الشرط الأول لمنع التوطين، وليس إقامة علاقات "صداقة وأخوة" معها.
القوى الرجعية في الأردن تعارض منح المرأة هناك حقوق المواطنة كاملة، لكنها تخشى الإفصاح عن موقفها المعادي للمرأة فتلوح بخطر مزعوم يثبت للمرة الألف كل يوم أنه غير موجود. فشعب فلسطين يقاوم منذ أكثر من ستين عاما محاولات اقتلاعه من وطنه، ويقاوم بأيديه المُدمَاة أعتى الجيوش وأكثرها وحشية، ويثبت يوما بعد يوم تمسكه بوطنه وبحقه الوطني الذي يأبى النسيان ولا يسقط بالتقادم.
حسنا.. إذا كان هناك من يفكر في التوطن في شرق الأردن، فكيف يعالج ذلك! بملاحقة الجاني أم الضحية؟
لنفترض جدلا أن فلسطينيين في الضفة الشرقية يرغبون في التوطن النهائي في شرق الأردن، فهل مقاومة ذلك تتم بالتواطؤ مع من اقتلعهم من أرضهم أم عبر مقاومته؟
ثمة مسألة أخرى، الحق الوطني الفلسطيني ليس فرديا بل مجتمعيا، ولا يمكن لأي كان التنازل عنه للغير. والهوية الوطنية يحملها الأبناء من الآباء، ويورثونها بدورهم لأبنائهم.
ثمة دول كثيرة في العالم وضعت مادة في دساتيرها تقول إن مواطن الدولة كذا لا يفقد تبعيته وحقه فيها، حتى لو تنازل عنها لتبعية أخرى. على سبيل المثال، أحفاد الألمان المهاجرين في القرن الماضي يمكنهم استعادة تبعية آبائهم وأجدادهم، حتى بعد مرور هذه الفترة الطويلة.
والميثاق الوطني الفلسطيني، الذي عبث به السياسيون المراهقون الذين لهثوا لتوقيع التنازل عن حقوقنا الوطنية/القومية في فلسطين مقابل وعود في وعود، كانت المادة الأساس فيه أن الفلسطيني لا يفقد انتماءه، مهما طال الزمن، وهو يتنقل من الآباء إلى الأبناء.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى من يريد منع التوطين وجب عليه ليس فقط معاداة إسرائيل وإنما أيضا دعم النضال الوطني/القومي لشعب فلسطين في مختلف المجالات، والتنسيق مع القوى العربية والعالمية المناهضة للصهيونية، وليس مع قوى العدوان والظلم.
إن لجوء البعض إلى التحريض المستمر على الفلسطينيين وتصويرهم على أنهم العائق أمام التطور في مختلف المجالات هدفه حرف النظر عن العدو الحقيقي، ويصب بالتالي في مصلحة الأخير، إضافة إلى التغطية على مواقفهم الشخصية المعادية للتطور الاجتماعي.
من ناحية أخرى، تعالوا إلى كلمة سواء: إن ثلاثة أرباع سكان شرق الأردن هم فلسطينيون، يتم تعريفهم بأنهم فلسطينيون/أردنيون، وهدف ذلك كله الالتفاف على الحقائق. لقد مرت أكثر من ستة عقود على التطهير العرقي في فلسطين، أي طرد الحركة الصهيونية شعب فلسطين من دياره في أثناء حرب تقاسم فلسطين عام 1948 بين أنظمة سايكس بيكو، بما في ذلك الدولة اليهودية، لكنه إلى يومنا هذا متمسك بوطنه/الجمرة، يواجه أعتى الجيوش بأجساد عارية، حتى صار أمثولة لكل المناضلين في العالم من أجل العدالة.
شعب فلسطين لم يتخل يوما عن وطنه، وبقي فيها، وعندما فتحت أمامه أبواب المغادرة بعد اندحار العدو من غزة، خرج إلى سيناء ليبتاع الحليب لأطفاله والخبز لنسائه ورجاله وشيوخه، وعاد طوعا.
كلمة أخيرة، ليتذكر كل محرض على الشعب الفلسطيني أن عمان هي من فرضت التبعية/الجنسية الأردنية على سكان الضفة بعد مؤامرة تقاسم فلسطين عام 1948، مما ينفي وجود أي أرضية لشكوى النظام الآن، ما لم تكن الأهداف غير سوية، وهذه قناعاتنا.
كاتب فلسطيني
زياد منى
لوم الضحية...! 1255