ما الذي أوصل المزارعين إلى درجة حرق الذهب الأبيض؟
السؤال ضروري، إذ صدم الرأي العام في مختلف أرجاء مصر، في أعقاب رفض أعداد من الفلاحين جمع محصول القطن، وقيامهم بحرقه على أشجارهِ، مُبررين فعلتهم بعدم جدواه الاقتصادية بالنسبة إليهم.
ومحصول القطن، هو ما كان يحلو لأهل الكنانة، أن يطلقوا عليه في ستينيات القرن الماضي "الذهب الأبيض" نظراً لما كان يتمتع به من جدوى اقتصادية لكلٍ من الدولة والفلاح. وموسم جنيه، كان يمثل عيداً يحتفل به المزارعون في مختلف القرى.
واعتبرت ثورة 23يوليو المحصول بمثابة صمامٍ للأمن القومي المصري، خلال المواجهات التي تمَّت مع (إسرائيل) وكانت مصر تصدِّر القطن للاتحاد السوفيتي السابق مقابل حصولها على السلاح.
ولذلك كان هناك سياسة تركيب محصولي، تلتزم خلالها الدولة بزراعة مساحات محددة من القطن سنوياً، وكانت أجهزتها تسخِّر كل إمكاناتها لرعاية المحصول، وضمان نجاح زراعته.
وظل الحال كذلك إلى أن أبرم الرئيس الراحل محمد أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد البغيضة، والتي كانت كارثة على الزراعة المصرية تحديداً، لأنها مكَّنت الخبراء الأمريكيين عن طريق المعونة أن يتحكموا في زراعة مصر، ويفرضوا على حكومتها التعاون مع (إسرائيل) في هذا المجال، بصفتهم الجهة الممولة.
وتمثلت البداية في مشروع النارب للأبحاث المشتركة بين مصر والولايات المتحدة، والتي أدخلت معها خبراء (إسرائيل) من الباطن، ورصدت لهذا المشروع مليار دولار علي مدار 8 أعوام، تحت شعار تطوير الزراعة المصرية.
ووقتها كان القطن المصري مستهدفاً من قِبل واشنطن وتل أبيب معاً، ولذلك قال الخبراء الأمريكان والصهاينة لرفاقهم المصريين، إن أقطانكم طويلة التيلة الممتازة تمكث في الأرض فترة طويلة وتُدر إنتاجاً قليلا، ونحن نريد أن نجعلها تمكث في الأرض فترة أقصر وتدر إنتاجاً أكبر.
وهنا تم التلاعب عبر تلك الأبحاث بالصفات الوراثية للسلالات المصرية من الأقطان، وتم عمل محو وراثي لها، لتضيع الميزة التي كانت تتمتع بها الأقطان المصرية، مع استنباط سلالة أقطان "البيما" والتي نقلها الأمريكيون للولايات المتحدة، وزرعتها (إسرائيل) في النقب المحتل.
ولم يشعر المصريون بالمأساة إلا عندما وجدوا الأقطان الأمريكية و(الإسرائيلية) تنافس أقطانهم في الأسواق العالمية، وهنا بدأ المحصول المصري يبور في تلك الأسواق، وانعكس ذلك علي تسويقه في مصر، وتزامن ذلك مع إلغاء التركيب المحصولي في مصر، ومن هنا بدأ المزارعون يمتنعون عن زراعة القطن، وتقلَّصت مساحاته.
وأتذكّر أنني ذات مرة فوجئت بالدكتور يوسف والي، وكان نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة وأمين عام الحزب الوطني المنحل، يطلبني في مكتبه، وذهبت إليه ففوجئت به ينتقدني لأنني أهاجم التطبيع مع (إسرائيل) فيما أكتب، ويُبلغني أن التعاون مع (إسرائيل) سياسة دولة.
ولا تغيب ابتسامة "يوسف والي" عن ذاكرتي وهو يقول لي بسعادة غامرة إن (إسرائيل) دولة متقدمة ووزارة الزراعة المصرية تستفيد منها، والمسؤولون في تل أبيب يحترمونه ويخصونه بالتقنيات الزراعية من مستلزمات الإنتاج كالتقاوي والشتلات والسلالات.
ثم قال "يوسف والي" إن إنتاجية الفدان من القطن في (إسرائيل) وصلت إلى أعلي المعدلات في العالم، وهذا حدث بفضل تعاونها مع مصر، وكأن الذي يحدثني وزير زراعة (إسرائيل)، وليس وزير زراعة مصر.
وكانت مساحات محصول القطن في مصر تتناقص بِمُضي الأعوام، واعتقدت أن تناقصها يتم بفعل إلغاء التركيب المحصولي بشكل جعل المزارع غير مجبر على زراعة القطن، إلى أن اكتشفت أن ذلك ينفذ وفق مخطط مرسوم بعناية ودقه، ليس للقضاء على زراعة القطن فقط، إنما لإنهاء وجوده زراعة وتجارة وصناعة، نظراً للدور الذي أداه القطن في دعم مصر واستقلالها في معاركها مع (إسرائيل).
وظهر ذلك بوضوح عقب توقيع اتفاقات الكويز الثلاثية بين مصر والولايات المتحدة و(إسرائيل) والتي تسمح لرجال الأعمال في مصر بتصدير منتجاتهم القطنية إلى الأسواق المصرية، مقابل استيراد مصانع الغزل والنسيج المصرية المشاركة في الاتفاقية عشرة ونصف في المئة من المكون الإنتاجي (الإسرائيلي).
وما فاقم المأساة، هو سماح الحكومة لرجال الاعمال باستيراد الأقطان من الخارج أيضاً، التزاما بالاتفاقات الدولية لتحرير التجارة، وهنا بار المنتج المصري وتضرر الفلاح وأسقط في يده.
وأرادت أعداد من المزارعين أن تبعث برسائل لكل من تبقَّى لديه ضمير في مصر، بأن محصول القطن يحتضر، فقامت بإحراق المحصول على أشجاره.
ومما يؤسف له، أن الدكتور عادل البلتاجي وزير الزراعة عاد للقاهرة مؤخراً، بعد أن مكث في الولايات المتحدة ما يقرب من عشرة أيام، شارك خلالها في مؤتمر التأثيرات المناخية، والتقى هناك بقيادات في وزارة الزراعة (الإسرائيلية) وذلك لبحث سبل توسيع عمليات التعاون في المجال الزراعي بين الجانبين والتي انطلقت سراً منذ انتخاب عبد الفتاح السيسي رئيساً لمصر لفترة ما بعد الانقلاب.
وفور عودته للقاهرة استقبله الجنرال "عبد الفتاح السيسي" صباح يوم 30 من سبتمبر الماضي، لا لكي يناقش معه دوافع قيام عدد من المزارعين بإحراق أقطانهم، والانعكاسات الكارثية لما قاموا به علي المجتمع الزراعي المصري، إنما ليعرض عليه الوزير تفاصيل لقاءاته مع المسؤولين في البنك الدولي، والصهاينة، والذين عرضوا على القاهرة تمويل مشروعات زراعية.
الملفت للانتباه أن من أهم تلك المشروعات وفق تصريح للسفير علاء يوسف، المتحدث الرسمي باِسم السيسي، استعداد البنك الدولي لتوفير 500 مليون دولار لتنفيذ هذه المشروعات، والتي تتضمن مشروع تطوير الري الحقلي.
وعرض د/عادل البلتاجي خلال مناقشاته علي عبد الفتاح السيسي طلباً من (إسرائيل) بعودة التطبيع إلى مساره الذي أوقفته ثورة 25من يناير المجيدة فور تفجرها في مصر، واستئناف اجتماعات اللجنة الزراعية المصرية الإسرائيلية العليا المشتركة برئاسة وزيري الزراعة في البلدين، والتي تُعقد بالتناوب كل ستة أشهر ما بين القاهرة والقدس المحتلة. وهي اللجنة المعنية برسم سياسة زراعية مشتركة بين الجانبين والتعاون في مجالات التدريب وتبادل الخبرات والمعلومات وإقامة مشروعات مشتركة.
كما عرض البلتاجي على السيسي مخططاً للبدء في إنشاء منطقة تجارة زراعية حرة في مثلث "طابا/ العقبة/ إيلات" لدعم التعاون ما بين مصر والأردن وإسرائيل، وتكون مركزاً إقليميا يحتكر تجارة الحبوب في المنطقة، ويكون معبراً لتزويد دول المنطقة بالمنتجات الزراعية.
وطرح وزير الزراعة على قائد الانقلاب أيضاً طلبات تقدم بها إليه رجال أعمال ومستثمرين لفتح باب استيراد كافة المنتجات ومستلزمات الإنتاج الزراعية من إسرائيل، كما كان الأمر قبيل تفجر ثورة 25 من يناير المجيدة.
ووفق مصدر بوزارة الزراعة، فإن "السيسي" أصدر تعليماته لوزير زراعته بتنفيذ كل ما يريده ويتعلق بالتعاون مع إسرائيل، وفي شتى المجالات، لكن بهدوء ومن دون ضجيج وبعيداً عن وسائل الإعلام، أو "في الخباثة" كما يقول أولاد البلد.
وركَّز "السيسي" على ضرورة أن يتم إبلاغ الإسرائيليين بذلك حتى لا يكشفوا ذلك من خلال وسائل إعلامهم، بحيث يتم تحذيرهم بأن مصر ستوقف هذا التعاون إن كشفته تلك الوسائل.
وقال السيسي إنه سيعطي تعليماته للوزير منير فخري عبد النور وزير التجارة لبدء المرحلة الجديدة من اتفاقية الكويز أو المناطق الصناعية المشتركة المؤهلة ما بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة والمتعلقة بالصناعات النسيجية.
وكان خبراء اقتصاديون أكدوا أن مفاوضات تعديل اتفاقية الكويز مرهونة باستقرار الأوضاع, مشيراً إلى أن توتر الأوضاع الأمنية في سيناء تسبَّب في تعطيل وصول الشحنات عبر معبر العوجة البري الرابط بين مصر و(إسرائيل) لفترات متفاوتة خلال العام الأخير، ما أدى إلى تعطل وصول الخامات إلى المصانع في المناطق المؤهلة والمرتبطة باتفاقية الكويز, وأن المخزون من المكون الإسرائيلي بالمصانع المصرية المشاركة بتلك الاتفاقية يكفي لمدة أقل من شهرين, وهناك بعض الخامات لا يوجد لها مخزون.
والجدير بالذكر أن وزير الزراعة (الإسرائيلي) الذي التقى بنظيره المصري أكثر من مرة خلال جولات الثاني الخارجية، لبحث التعاون بين الجانبين هو "يائير شامير" ابن رئيس الوزراء (الإسرائيلي) السابق إسحق شامير وشارك من قبل في سلاح الطيران الإسرائيلي، وهاجم العديد من المواقع المصرية والعربية.
ومن المعروف أيضا أن د/عادل البلتاجي وزير الزراعة المصرية من أهم كوادر التطبيع مع (إسرائيل) وزار تل أبيب أكثر من عشر مرات، عندما كان يوسف والي وزيراً للزراعة خلال عهد مبارك. كما سبق له أن كان عضواً في المجلس التنفيذي للمجموعة الاستشارية لمراكز البحوث الزراعية الدولية، وهي مجموعة من أهم المعاهد الصهيونية الدولية التي تسيطر عليها الشركات الدولية متعددة الجنسيات والتي تتحكم في غذاء العالم.
ومن المهم أن نشير إلى أن البنك الدولي لم يُبدِ استعداداً لمنح وزارة الزراعة المصرية نصف المليار دولار اعتباطا، إنما لأن الوزير المصري عادل البلتاجي أبدى استعداداً أن تتولي شركات (إسرائيلية) تطوير منظومة الري المصري القديمة، وأن يتم شراء المعدات من (إسرائيل) تحت زعم أنها متقدمة في هذا المجال.
أما عن محصول القطن الذي تم إحراق آلاف الأفدنة المزروعة منه، بعد أن اكتشف المزارعون أن تكاليف جمعه أكثر من ثمنه، وتجاهل عبد الفتاح السيسي ووزير زراعته مناقشة تلك الكارثة في لقائهما، وهذا ربما يرجع إلى أن الأمريكان، والذين يموِّلون قطاع الزراعة وبحوثها في مصر، لا يريدون من المصريين أن يزرعوا القطن. ويريدون أن يحوِّلونا إلى دولة تستورد أيضاً ما تلبس، مثلما تستورد ما تأكل، ولأن إحراق محصول القطن لاقى استحساناً لدي دوائر المعونة الأمريكية بالقاهرة، فإن "السيسي" ووزيره تعمدوا تجاهل تلك الكارثة. ولذلك انخفضت مساحات القطن من حوالي مليون و600 ألف فدان في العام 1979م، وهو عام توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" إلى أقل من 350 ألف فدان الآن، يُفترض أن يكون 20? منها لإنتاج التقاوي.
ووفق إحصائيات منظمة الزراعة العالمية الفاو فإن مصر تساهم بنسبة 0.4% فقط من الإنتاج العالمي من القطن في العام 2009- 2010م والذي بلغ نحو 22.2 مليون طن متري.
واستهلكت مصر نسبة 0.7%، من كمية الاستخدام العالمي من القطن عام 2009-2010 م البالغة نحو 25.6 مليون طن متري.
وبلغت الكمية التي صدَّرتها مصر نحو 0.071 مليون طن بنسبة 0.9%، وذلك من كمية الصادرات العالمية من القطن عام 2009- 2010م البالغة نحو 7.8 مليون أطنان.
وبلغت كمية الواردات العالمية من القطن في العام 2009-2010 نحو 7.9 مليون طن، وساهمت بمصر بنسبة 1.5% منها.
وبلغ حجم المخزون العالمي من القطن في العام 2009- 2010 نحو 10.4 مليون، وساهمت مصر فيه بنسبة 0.5%.
ووفق دراسة للدكتور "أحمد حسنى غنيمة" أستاذ الاقتصاد بمركز البحوث الزراعية بالقاهرة فإنه "لابد أن تتدخل الدولة في تعديل الأسعار والمحافظة على أصناف القطن طويل التيلة، وأن يقوم الإرشاد بدور مهم، مع حل مشاكل صناعة الغزل والنسيج حتى يحافظ القطن المصري على أهميته في التجارة الخارجية وأن يُدر عائداً للمزارع يشجعه على زراعته".
ويرى د/أحمد حسنى غنيمة أيضاً أنه "إذا ما ظل الحال على ما هو عليه فإن القطن المصري في العام 2017م سوف تصبح زراعته مجرد تاريخ مضى، وسوف لا يُقبل الفلاح على زراعته".
ويعمل في إنتاج القطن بمصر حوالى مليون أسرة ريفية، في حين يعمل في صناعة القطن وتجارته نحو أكثر من (620) ألف عامل وأكثر من مليون عامل بطريقة غير مباشرة.
وتسبَّب إحجام التجار وشركات القطن عن شراء المحصول في تكدس 3 ملايين قنطار من الأقطان المصرية النقية التي تتجاوز قيمتها 4.5 مليارات جنيه في بيوت الفلاحين، ما أصابهم بالانهيار الشديد.
وظل القطن المصري في الصدارة العالمية، منذ عهد محمد علي، وحتى العام 1994 م، و كانت الدولة هي التي تتحكم فيه، إلى أن تعرض القطن لمؤامرة أمريكية و(إسرائيلية) سبق وأن أشرنا اليها لإخراج مصر من صناعة المنسوجات، خطط لها بعد توقيع كامب ديفيد في العام1979م، وبدء التطبيع في مجال الزراعة مع تل أبيب.
وما ضاعف من حجم المأساة التي تعرض لها محصول القطن في مصر، موافقة وزارة عاطف عبيد على طلب البنك الدولي بخصخصة شركات المنسوجات وتحرير تجارة الأقطان.
وجراء تلك الخصخصة، بدأت تلك الشركات في استيراد أقطان أقل من حيث الجودة، والسعر، لتحقيق أكبر ربح ممكن.
وعمدت دول أخرى إلى إغراق السوق المصرية بالأقطان والمنسوجات بأسعار متدنية، لإثناء المزارعين عن زراعة القطن المصري على الرغم من تفوقه على الأقطان المستوردة.
والآن بات القطن في مصر يحتضر زراعة وصناعة وتجارة، فهل يصبح، بسبب الإهمال المتعمد له، في ذاكرة التاريخ ؟.
صلاح بديوي
كيف قضت إسرائيل على القطن المصري زراعةً وتجارةً وصناعة؟ 1723