هل تريد أميركا توريط تركيا في المستنقع السوري؟ سؤال لا يحمل مفاجآت والإجابة عليه بالإثبات أو النفي لا تحمل دلالة. مسؤولون أتراك كبار صرحوا للإعلام: دخولنا سوريا يراد له أن يكون كدخول صدام الكويت، وتأييد أميركا لنا لا يمنع قيام روسيا بدور أميركا في عام 1991 ووضع تركيا أمام استحقاقات قضائية دولية.
لكن التساؤل يبقى مشروعا أمام التزام أميركا الدفاع عن تركيا في وجه أي اعتداء من جهة ومضايقتها والتحرش بها من جهة ثانية.
يمكن الإجابة على التساؤل من داخل تركيا ومن محيطها والدلالة حينئذ مختلفة. الأولى أدواتها محلية وتخص الأتراك وحدهم وتنسجم مع نمطية العلاقات بين الدولتين. مضايقات أميركا لتركيا والإيقاع بها في إحراجات سياسية وأمنية محلية ودولية ليست أمرا مستجدا.
سياسيا كانت أميركا وراء انقلاب الجيش على الحكم المدني في عام 1980 الذي عطل نهضة تركيا لعقدين كاملين وزج بها في طور من الشلل السياسي والاقتصادي. عسكريا اكتشفت تركيا في مرحلة ما من حربها مع حزب العمال الكردستاني الانفصالي أن عدوها يحاربها بسلاح حليفها أي بسلاح أميركي.
إستراتيجيا تشهر أميركا سيف ملف الأرمن من غمده بين الفينة والأخرى في توقيتات تختارها بعناية لإلحاق أقصى درجات الإحراج والابتزاز بالحكومة التركية.
من جهتها تحكم "عقدة سيفر" (نسبة لمعاهدة سيفر السرية في الحرب العالمية الأولى التي هدفت إلى تقسيم تركيا والتي كشفها البلاشفة الروس) نظرة الأتراك إلى أميركا، فالأتراك يتوجسون من رغبات أطلسية يعتقدون أنها حقيقية لتقسيم بلادهم، وفي المقابل تبادل أميركا الشك بالشك ولا سيما بعد رفض تركيا السماح للجيش الأميركي بغزو العراق من أرضها. الإجابة من الداخل التركي لا تحمل أكثر من دلالة مشاكسات حدثت في الماضي وتحدث هذه المرة في عين العرب.
إجابة المحيط لا تخص الأتراك وحدهم وإنما المنطقة جمعاء وهو الأهم والأخطر وهو ينتظم في ظاهرة إضعاف الدولة في المنطقة وتفكيك مجتمعاتها التي تؤيدها الشواهد المتضافرة في العراق وسوريا واليمن والبحرين.
تمثل تركيا وسط هذه الظاهرة الأنموذج الأخير المتبقي الذي يمكن للمنطقة إعادة التبلور حوله والنهوض من جديد، وتدل دواوين التاريخ على أن محورا تركيا سلجوقيا أو عثمانيا كان أساسيا في إعادة تبلور مجتمعات المنطقة إثر كل غارة فارسية تكون المجتمعات العربية ساحة لها.
ما يلقي ضوءا على حجم الضرر الذي تسمح أميركا بإنزاله بتركيا هو القيمة الإستراتيجية يوم قبلتها عضوا في ناديها (الناتو) في عام 1952. لم تكن الدولة الزراعية الفقيرة والمتأخرة والمنهكة في الحرب العالمية الأولى بالنسبة لأميركا أكثر من مساحة جغرافية متاخمة للاتحاد السوفياتي تقيم عليها قواعدها العسكرية وجيشا علمانيا انتزعت منه قيمه الفكرية وظيفته الضغط على الزناد في أي اتجاه يطلب منه.
وقد اصطحبته أميركا إلى حربها الكورية الكورية في 1953 ليقاتل على أرض لا يعرفها ضد عدو لا خصومة له معه إلى جانب حليف كان بالأمس عدوا لدودا له. ذاك الجيش قد تغير اليوم وتغيرت قيادته واستعاد انتماءه وكان تمرده على طلب أميركا غزو العراق من أرضه في عام 2003 تتويجا لعقيدته الجديدة.
حاجة أميركا من تركيا لا تتطلب أكثر من الدولة التي كانت في عام 1952، بل إن تركيا تلك أدت دورها المناط بها على أحسن وجه في أدق حقب الحرب الباردة التي ذهبت.
حاجة أميركا إلى تركيا لا تقتضي أن يكون ترتيب اقتصادها السادس أوروبيا وهبوط التضخم فيها من 30% إلى 7% وتضاعف معدل دخل المواطن السنوي عشرة أضعاف وتضاعف عدد المطارات والجامعات في غضون عشرة أعوام وإلى خدمات صحية مجانية تصل إلى كل قرية وقمة جبل وشبكات طرق سريعة وأنفاق تنخر جبالها وقطارات سريعة، هذا كله غير ضروري وزواله غير مضر.
بالتوازي لا يروق لأوروبا العليلة انتقال أكبر مطار في العالم من أوروبا إلى مدينة إسطنبول وتحول الشباب في الشرق الأوسط وأفريقيا عن جامعاتها العريقة لحساب جامعات تركيا ومثلها مستشفياتها وأن تكون تركيا ماردا اقتصاديا على حدودها. هذا كله ليس شرطا في علاقات الغرب مع حليفها في الناتو تركيا.
تركيا التي فضلت أميركا "إسلامها" على "الإسلام العربي" لا تمثل نهضتها بالنسبة لواشنطن ماردا أصوليا وإنما تمثل تعافيا لنظام الدولة ولمدنية المجتمع اللذين كانا على مدى تسعة عقود من عمر الدولة الحديثة معا المحضن الذي تقضي فيه مجتمعاتها نقاهتها الثقافية وترمم هويتها إثر جراحة سايكس بيكو فيما يراد لها إعادة تكوين على أسس مختلفة ضمن عملية إعادة هندسة اجتماعية شاملة للمنطقة.
نظرة أميركا إلى مجتمعات المنطقة على انسجام مع ما عبر عنه أعمدة الجاسوسية الإنجليزية في أعقاب الحرب العالمية الأولى من أن الحرب لم تؤدِ غرضها الأعظم في الشرق الإسلامي وهو الانتهاء من "المسألة الشرقية" (العنوان الذي أطلق على معركة الغرب مع الشرق الإسلامي وتفكيك نظامه الإقليمي وبنيته الاجتماعية)، وأن هذه المجتمعات أعادت إلى صدارتها نفس الواجهات السياسية والاجتماعية التي مثلت شارعها في المبعوثان العثماني.
بعبارة أخرى: أن حدثا بحجم الحرب العالمية الأولى الذي أحدث أول تغيير في الخريطة السياسية للعالم خلال ستة قرون لم ينجح في إحداث تغيير جراحي اجتماعي ثقافي في المنطقة على وجه أكمل رغم دخول العلاقات العربية التركية كنتيجة له حقبة سبات ثقافي واجتماعي طويل. المتغيرات السياسية والاجتماعية في تركيا تمثل اليوم انقلابا من جديد لمنحنى هذه العلاقات.
تقييم النظام السياسي العربي لأدائه الذاتي لا يختلف عن تقييم أوروبا لأدائها، فتركيا أصبحت داخل البيت العربي كما كانت مصر عبد الناصر وعراق صدام حسين، وأعلامها ترفع في الشوارع العربية بدلا من الأعلام العربية، وأسماء زعمائها تطلق على المواليد الجدد. الأهم أن هذا ليس صنيع ناشطين سياسيين أو إسلاميين وإنما عمل أبعد الناس عن المؤثرات السياسية والإسلام الحركي، وأقلهم بضاعة وأكثرهم تواضعا في المجتمع.
هذا هو المشهد الذي يستشعر منه النظام العربي الخطر ويتراءى له أنه عودة للعثمانية التي لم تكن دولتها منظومة دينية بقدر ما كانت أعرافا اجتماعية استلت من الإسلام ونظاما سياسيا محافظا حافظ على خصوصيات مجتمعات المنطقة وهو ما تطلبه اليوم الشعوب التي ذهبت مجتمعاتها ودولها ويجدونه في تركيا.
ليس لشيء من هذه المعاني ذكر في السياسة الخارجية لتركيا أو في أحاديث منظريها الإستراتيجيين أو كتابات النخبة، وليس لمؤسسات الفكر فيها استثمار في هذه الحقول بل الزهد والحساسية والعزوف. في المقابل لا تقوم على ظاهرة الالتئام الثقافي والاجتماعي العربي التركي في المحيط العربي مدرسة سياسية أو فكرية أو منظمة ما إنما هي ظاهرة شعبية عفوية أوجدها تحول فكري عميق لدى الإنسان العربي تقدم فيه النسب القيمي على النسب القومي.
كل شيء يحدث في تركيا اليوم لا ينسجم مع المزاج الرسمي الإقليمي (العربي والإيراني) والدولي، وكل حدث في الاتجاه المعاكس يلتقي مع هذه المزاجات، لذا ينهال المال الرسمي العربي على الأحزاب والمؤسسات العلمانية والروحية التركية على حد سواء المناهضة للنظام السياسي القائم، وينهال السلاح الأميركي من السماء بالمظلات على المنظمات المعادية لتركيا في عين العرب التي تمثل امتدادا لحزب العمال الكردستاني المدرج على قائمة الإرهاب الأميركية.
وتمتد أصابع إيران لتحريك الأقليات الطائفية داخل تركيا وفي محيطها، وتعقد مؤتمرات أمنية دولية متتالية للتخطيط لفعاليات عسكرية قبالة الحدود التركية تشترك فيها "أمم الأرض" وتظهر أمامها تركيا الخروف الأسود في القطيع الأبيض.
العنوان الرسمي للمشهد الإقليمي هو: لا مكان لتركيا المؤسسات في محيط يسلّم لحكم المليشيات، لا مكان لاقتصاد الدولة في محيط السوق السوداء وتهريب الثروات الطبيعية، لا مكان لمجتمع الأغلبية المتعدد العرقيات والأديان والمذاهب وسط كيان الأقليات، لا مكان للافتة الإسلام الحضارية أمام لافتة الطائفية.
لا ضير أن يذهب النظام الحالي في تركيا ومعه الرخاء والاستقرار، ويؤوب العلمانيون ومعهم الفشل والاضطرابات وتبقى تركيا بالنسبة لأميركا مساحة أرض. التخلص من تركيا غاية والتحرش بها وسيلة.
*باحث وكاتب عراقي
ربيع الحافظ
هل تريد أميركا إحراج تركيا أمام العرب؟ 1022