كيف يفهم العرب الحرب التي أعلنت على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مؤخراً؟ هل هذه الحرب التي بدأت هي بالفعل حرب على التطرف والإرهاب أم آلية للالتفاف على الثورات ومطالب الإصلاح؟ وهل هي حرب كونية فعلاً أم أنها تعبير عن مصالح خاصة؟ وهل يمكن فصل حركات التمرد والعنف عن سياقها السياسي العام؟.
يطرح هذا المقال مجموعة من الأسئلة ذات الصلة، لكن من الأهمية في هذا الزمان تسجيل موقف مبدئي وهو أن كافة عمليات القتل والترويع والإرهاب التي تُنسَب إلى تنظيم داعش أو غيره من التنظيمات هي عمليات مرفوضة تماماً وأيضاً كل صور وعمليات الاعتداء الأخرى التي تخترق أبجديات حقوق الإنسان وكرامته في أي مكان في العالم.
الفجوة بين الشعوب والحُكام
هناك أولاً فجوة بين تساؤلات الشعوب وبين سياسات أنظمة الحكم والحكومات في مسألة الإرهاب، إنْ في الدول العربية أو في الغرب.
يُطرح في بلداننا العربية سؤال رئيسي هو: هل جوهر المشكلات في هذه البلدان هو العنف والإرهاب أم غياب العدل والحريات؟ ويلي هذا السؤال أسئلة أخرى مثل: هل غياب العنف والإرهاب سيوفر العدل والحريات أم أن إقامة العدل وصيانة الحريات كفيلتان باحتواء العنف والإرهاب؟ وهل استطاعت النُّظم الحاكمة تحقيق برامج تنمية حقيقية تعالج التفاوت بين الطبقات وتضمن الحد الأدنى من المعيشة الكريمة وتمنع مسالك الفساد واستغلال النفوذ؟
وهل استطاعت هذه النظم أن تحمي وتوفر قنوات سلمية للتعبير عن الرأي والمشاركة الحقيقية في الشأن العام دون تمييز أو إقصاء؟ وهل احترمت النظم الحاكمة استقلال القضاء وحرصت على مهنية الإعلام ومنعت تسييس أجهزة الدولة وأكدت على استقلال الجامعات والمراكز البحثية؟
وهل وضعت الرجل المناسب في المكان المناسب ومنعت المحسوبية وتوقفت عن إقصاء المخلصين والشرفاء؟ وهل تمثل هذه الأنظمة الحاكمة شعوبها في الأساس؟
وتجاه الغرب، يطرح سؤال رئيسي هو هل نجحت سياسات الغرب المتبعة منذ عقود في معالجة العنف والإرهاب؟
ويرتبط بهذا أسئلة أخرى منها ألا يوجد طريق آخر للحفاظ على مصالح الغرب بالمنطقة في ظل حكومات عربية منتخبة ومسؤولة أمام شعوبها وتحترم القانون وحقوق الإنسان؟ أليس هناك سبيل للتوافق على قواعد للتدافع الحضاري والتنافس السلمي بدلاً من الاستعلاء والمواجهة؟
هل تدرك الحكومات المنتخبة من شعوبها أن ثمة ازدواجية بين التمسك بالشفافية والعدل والحريات في الداخل وبين التدخل في شؤون الدول الأخرى والعبث بمصائر شعوبها في الخارج؟ أليست دولة الاحتلال الإسرائيلي، منذ نشأتها، تمارس إرهاب الدولة وتنتهك حريات الإنسان الرئيسية وأبجديات القانون الدولي؟
لماذا لم تدعم الدول الغربية بشكل مباشر وحاسم التحركات الشعبية من أجل الديمقراطية في البلدان العربية؟ ولماذا الإصرار على السياسة القديمة القائمة على التحالف مع الأنظمة والنخب القديمة ضد نضال الشعوب السلمي من أجل الحرية والعدالة والكرامة؟ لماذا لم يحسم الغرب موقفه لصالح الديمقراطية في الدول العربية كما حسمها بوضوح من قبل مع أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية؟
ألا يعرف صناع القرار في الغرب أن النتيجة المنطقية لتجاهل مطالب الشعوب ومحاربة المعتدلين هي فقدان الشعوب الثقة في التحركات السلمية وظهور المتطرفين ودعاة العنف؟
ألم تفشل سياسات التدخل والهيمنة في العراق وأفغانستان والصومال؟ ألم يفكر صناع القرار في خطورة ما يترتب على هذه السياسات؟ ألم يدرك هؤلاء من قبل أن وصول الإرهاب إلى عقر دارهم كان سببه الأول دعم الأنظمة المعادية للحريات منذ ستة عقود؟
وهل سياسات الغرب هذه كونية تعبر عن مصالح شعوبها وتتفهمها شعوب الأرض في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا أم أن هناك مصالح خاصة تحركها؟ هل هناك استراتيجية معتمدة ممَّن لا يريدون خيرا بهذه المنطقة وشعوبها ومقدراتها تقوم على وضع الإنسان العربي أمام خيارين أحلاهما مر: إما الاستبداد والقمع، وإما الإرهاب والفوضى؟
علاقة الإرهاب بالإصلاح
وهناك ـ ثانياًـ عدة أسئلة متصلة بعلاقة الإرهاب بالإصلاح والثورات الديمقراطية، علينا أن نطرحها بشكل مباشر إذا أردنا أن نجد حلاً حقيقيا لظهور حركات عنيفة تروع الآمنين ولا تفرق بين من يحاربها وبين الأبرياء.
أليست هذه المرة الثالثة على الأقل، في العقود الأربعة الأخيرة، لإعلان الحرب على الإرهاب في أعقاب ظهور مطالب شعبية لإحداث تغيير حقيقي في نمط السلطة في حكومات المنطقة التي لا تعرف إلا الاستبداد والفساد وتكميم الأفواه؟
ألم تكن المرة الأولى بعد أن انتهى دور من عُرفوا بالمجاهدين في أفغانستان؟ ألم يكن هناك حراك سياسي مناد بالإصلاح السياسي في أكثر من دولة عربية رئيسية مثل مصر والسعودية والجزائر وغيرها، لكن عودة من عرفوا بالمجاهدين العرب ورفعهم السلاح أدخلت هذه البلاد في معركة ضد الإرهاب فانتهى الحديث عن الإصلاح؟.
ثم لمّا عاد الحديث من جديد عن الإصلاح السياسي، في مطلع الألفية الجديدة، جاءت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 لتقوم الحكومات الغربية والعربية بشن حربها على الإرهاب. ثم لماذا امتد الأمر إلى مساواة مقاومة الاحتلال بالإرهاب؟ ولماذا كان الحرص على تغيير المناهج الدينية دون المساس بكافة علل التعليم والثقافة والإعلام، ناهيك عن جوهر المشكلة المتمثل في غياب العدل وقمع الحريات ودعم المستبدين؟
ثم الآن وبعد ثورات الربيع العربي، كيف تحول الأمر من النضال السلمي للشعوب من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية إلى الخوف والقلق من أي تغيير؟ ولماذا تدخل حكومات المنطقة في تحالف جديد للحرب على الإرهاب بدل تصالحها مع شعوبها وإجرائها عمليات إصلاح حقيقية تقوم على حكم القانون ودولة المؤسسات والمواطنة التامة والتداول السلمي على السلطة والفصل بين المال العام والمال الخاص؟
ألم يتدخل الغرب في أفغانستان والعراق والصومال بذات الخطاب وارتكب كل الأخطاء الممكنة؟ ألم يكن لهذه السياسات الفاشلة ردود فعل شملت الغرب ذاته؟ ألا يفكر أحد في أن الحرب الحالية ستكون لها نتائجها العكسية المؤلمة على الجميع؟
ولماذا لا يتدخل الغرب على النمط الذي تدخَّل به مع الألمان واليابانيين أو يحسم أمره لصالح الديمقراطية كما حسمها في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية؟ ألم يصطف مع الشعوب وآمالهم وترك لهم حرية بناء اقتصادهم ونظامهم السياسي القائم على الحريات وحكم القانون والمواطنة؟ لماذا زرعُ الطائفية وتدمير المقدرات وفتح المجال للصراعات العبثية عندنا وتقديم الدعم المالي والعسكري والمعنوي لحكم القانون ودولة المؤسسات عند غيرنا؟
حركات التمرد
وعلينا ثالثا أن نفكر في الأسئلة التي تكشفها لنا حقائق التاريخ بشأن نشأة حركات التمرد. نعم ثمة جدل كبير في الأوساط الأكاديمية بشأن تعريف هذه الحركات ودوافعها وعلاقتها بحركات التحرر والإرهاب والمقاومة. لكن ألا تُعرّف حركات التمرد المسلحة بأنها حركات ذات دوافع سياسية وغير معترف بها دوليا تستهدف إسقاط أنظمة أو حكومات أو تحقيق الاستقلال الوطني؟ ألا تظهر في سياقات معينة ونتيجة لأوضاع وظروف محددة، وقد تنتج عنها نتائج مختلفة كالحرب الأهلية والفوضى أو التقسيم أو التحرر الوطني أو التفاوض السياسي؟
ألم تسر الأمور في كثير من بقاع الأرض على هذا النحو؟ ألم يظهر الجيش الحر الايرلندي في سياق صراع مذهبي؟ ألم تكن حرب العصابات التي بدأت في 1919 نتيجة أساسية لقوانين وسياسات إنجليزية ومعاهدات غير منصفة لسكان أيرلندا؟ ألم تكن هذه هي الحال مع حركات أخرى كحركة مقاومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وحركة الحقوق المدنية في أميركا؟
لماذا سيختلف تنظيم داعش عن غيره من حركات التمرد التي شهدها العالم بغض النظر على نشأته وأساليب عمله؟ ألا يشترك مع غيره من حركات التمرد المسلحة في بعض الخصائص؟ ألا يمثِّل من جهة حركة تمرد مسلح ضد أنظمة قائمة، وله دوافع سياسية، وظهر في سياق محدد وكرد فعل على أوضاع معينة؟.
ألا يمثل التنظيم أيضاً أحد تجليات تراجع العرب والمسلمين وتقسيم الأرض، التي كانت يوما تحت سلطة واحدة، وزرع الحدود المصطنعة بين أقاليمها وسيطرة الدول الغربية عليها إن بشكل استعماري مباشر أو عبر سياسات التبعية والهيمنة غير المباشرة؟.
ألم تشهد بلاد المسلمين ردود فعل كثيرة على هذه الأوضاع، بعضها فكري ونخبوي وبعضها الآخر شعبي؟ ألم تظهر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حركات إحيائية على يد علماء ومثقفين دعت إلى مسار توافقي سلمي عبر التمسك بثوابت وأسس التصور الإسلامي للنهوض مع الانفتاح الواعي على الحضارات الأخرى؟
من المسؤول عن عرقلة هذه الحركات السلمية المعتدلة؟ ولماذا لم تنجح في الوصول لأهدافها؟ ألا تتحمل النخب الحاكمة بعد الاستقلال والقوى الخارجية مسؤولة هذا الفشل أو على الأقل الجزء الأكبر منه؟ ألا يتحدث الغرب كثيرا عن التعايش والتعاون لكنه يمارس على الأرض عكس ذلك؟
ألا يفهم أحد أن أصحاب تنظيم داعش ومناصريه يعتقدون أن كافة الطرق الأخرى السلمية لم تنجح وأنه لا أمل في الخلاص إلا برفع السلاح، فالدول تقوم لديهم بحد السيف، وعالم السياسة المعاصر لا يحترم إلا الأقوياء، والحقوق تنتزع انتزاعا؟
أليس هذا التنظيم هو الناتج الطبيعي لكافة هذه الأوضاع بدءا من نظم الاستبداد وقمع الحريات والفساد والإفساد والإفقار وتبديد الثروات، مرورا بسياسات إفساد التعليم والثقافة والإعلام وتسطيح العقول، وانتهاء بسياسات الهيمنة والتبعية للخارج؟.
أليس هو أحد الأعراض الذي يمكن أن ينتهي إنْ تحت الضربات الحالية أو في مستقبل قريب؟ لكن هل انتهاؤه سيحل مشاكلنا؟ هل علينا محاربة الأعراض أم معالجة جذور المشكلات؟
الجزيرة
عبد الفتاح ماضي
أسئلة محاربة الإرهاب وإجهاض الثورات 1251