تكثف أميركا هذه الأيام جهودها لما تسميها محاربة الإرهاب، وتعمل بجد واجتهاد على إقامة تحالف دولي يضم بالأساس دولا عربية لمكافحة الإرهاب، خاصة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
والملاحظ أن أميركا تتحدث ضد الإرهاب بملء فمها، وتكثر من اتهام الآخرين بالإرهاب وكأنها بعيدة عنه، ولا علاقة لها بنشره واتساع نطاقه على المستوى العالمي، وهي دائما تتصرف كوصي على العالم، وسرعان ما تصدر عنها قرارات تصنيف الآخرين ووصفهم إما بالإرهابيين أو الداعمين للإرهاب، ومن خلال نشاطها تحاول أميركا إيصال رسالة إلى العالم بأنها هي البريئة والآخرون هم المجرمون.
تعريف الإرهاب
ثار جدل طويل حول تعريف الإرهاب على الساحة الدولة، وحاولت أميركا دائما أن تستأثر بالتعريف وترفض عقد مؤتمر دولي للتوصل إلى تعريف مقبول دوليا، وقد عملت دول عربية مثل العراق في عهد صدام حسين وسوريا إبان عهد حافظ الأسد الدفع باتجاه عقد ذلك المؤتمر، لكن أميركا كانت دائما ترفض خشية أن يشمل التعريف سلوك دول وعلى رأسها إسرائيل.
رغبت أميركا باحتكار التعريف لكي تبقى هي صاحبة المزاج السياسي المهيمن على العالم والرافض لبحث علمي للتعريف، ولهذا وضعت أطراف أميركية داخلية مثل وزارة الخارجية الأميركية ووزارة الدفاع والبيت الأبيض تعريفات خاصة بها ركزت كلها على أن الإرهاب عمل عنفي تمارسه تنظيمات مسلحة من أجل تحقيق أغراض سياسية.
تصب التعريفات الأميركية في خانة وجهة النظر الأميركية والتي تعادي في الأساس كل حركات التحرر في العالم، ويبدو أنها أيضا تعادي حريات الشعوب والأفراد، وتلجأ عادة إلى مقولات سياسية وفلسفية من أجل تبرير هذا العداء الذي سرعان ما يتحول إلى عمل مسلح وحروب.
حركات التحرر تشكل هدفا مشروعا للضربات الأميركية المالية والعسكرية والأمنية والسياسية، وكان لا بد من صياغة تعريف تهتدي السياسة الأميركية به ومعها سياسات الدول التابعة سواء على المستويين الأوروبي أو العربي، ولهذا فإن التعريف الأميركي مرفوض ولا يعالج مشكلة ما يسمى بالإرهاب على الساحة الدولية.
الإرهاب هو كل عمل مستند إلى قوة مباشرة أو غير مباشرة -عنفية أو غير عنفية- من شأنه أن يسلب الآخرين حقوقهم، أو يحول بينهم وبين تحصيل حقوقهم. والقوة عنصر أساسي في هذا التعريف، لكن ليس شرطا أن يتم استعمالها مباشرة بهدف إيقاع الأذى المادي أو الجسدي المباشر، ومن الممكن استخدامها للتهديد والوعيد أو فرض عقوبات اقتصادية ومالية، أو صناعة أجواء نفسية ومعنوية مخيفة رادعة بشكل أو بآخر، والهدف في النهاية اغتصاب حقوق الآخرين بالسيطرة عليها أو نهبها ومنعهم من القيام بالأعمال الضرورية لإنجاز حقوقهم أو تحصيلها.
وهذا التعريف يستثني كل الأعمال التي يمكن أن تقوم بها تنظيمات أو دول بهدف استعادة حقوق انتهكت أو ثروات نهبت، والحق كل الحق لمن يدافع عن نفسه ويصون حقوقه، ولا حق لمن ينتهك حريات وحقوق الآخرين.
بناء على هذا التعريف، الاستعمار إرهاب، والدول الاستعمارية التقليدية مارسته بعنف ضد الشعوب المستعمرة ونهبت ثروات الأمم، وما زالت تمارس الأمور ذاتها بطرق إبداعية متنوعة، والولايات المتحدة تمثل أكبر مصدر إرهاب في العالم لأنها تتصرف كمسؤول أزعر وبلطجي يحمل سلاحه على ظهره ويوزع الموت هنا وهناك دون أدنى حس بالمسؤولية.
الولايات المتحدة تمثل أعلى درجات الاستعمار الغربي والمتمثل بالسيطرة الثقافية والفكرية على الأمم، واستعمال السلاحين العسكري والاقتصادي لمن لا يريد تقديم الولاء والطاعة، بل إن تصرفات الولايات المتحدة تؤكد أنها دولة نازية بتصريحات حريرية إنسانية.
أراد هتلر أن يسيطر على العالم بقوة السلاح ويجسد تفوق الجنس الآري على العالم بأسره، والولايات المتحدة لا تقل شأنا في هذا المجال غير أن نهمها العسكري أقل وطأة من ألمانيا النازية.
أميركا ذهبت إلى فيتنام دون سبب يذكر، وقتلت الناس وهدمت البيوت وأحرقت الشجر والحجر، وتوجهت إلى أفغانستان وعاثت في الأرض الفساد، وانتهت أعمالها بانتشار تنظيمات إسلامية جهادية في كل مكان، وما ذهبت من أجله في العراق انتهى بنتائج عكسية.
هل فعلا ظهرت التنظيمات الجهادية الموصوفة بالإرهابية تلقائيا وكرد فعل، أم إن هناك من صنعها ومولها وسلحها؟ التاريخ سيجيب عن هذا السؤال، والولايات المتحدة في قفص الاتهام الآن، ثم من الذي صنع فتنة السنة والشيعة في الوطن العربي والعالم الإسلامي وهيأ البيئة المناسبة للقتل الجماعي والإجرام غير الولايات المتحدة وعملائها من العرب؟
الاستبداد إرهاب
ضمن هذا التعريف، الاستبداد السياسي إرهاب لأنه يستعمل القوة ضد المواطنين لإخضاعهم وابتزازهم ومنعهم من التعبير عن أنفسهم واختيار نظام الحكم الذي يرونه مناسبا، الاستبداد يستعمل القوة -قوة أجهزته الأمنية- لقهر الناس وإرعابهم وسلبهم حقوقهم، وأغلب الأنظمة العربية تقع ضمن هذا التصنيف.
لقد نشرت أنظمة العرب الفساد والطغيان والهزائم والذل والهوان في مختلف أرجاء الوطن العربي، فأصبحت أوطان العرب مستباحة وثرواتهم منهوبة، وحتى الآن وبعد كل المعاناة التي يمر بها العرب ما زالت أغلبية أنظمة الحكم العربية لا تعترف بحرية الناس، ولا تقيم وزنا لحقوقهم، وثروات الناس يتم تبديدها على طاولات القمار.
الاستبداد هو الظلم بعينه، والظلم يولد رد الفعل الذي يتطور تدريجيا إلى عنف، طبعا الظلم يولد القهر، والقهر يولد الانتقام، ولا يوجد انتقام أقوى تعبيرا من حمل السلاح، لقد قهرت الأنظمة العربية الناس حتى أشعلت الحروب الأهلية، وهي حروب قادمة على تلك البلدان العربية التي لم يقتتل الناس فيها بعد.
لكن من الذي رعى حكومات القهر العربية ودعمها وشجعها؟ إنها الدول الاستعمارية وبالأخص الولايات المتحدة، أميركا هي راعية الاستبداد العربي، وهي التي قدمت كل الدعم لأجهزة الأمن العربية لتكون قادرة على الاستمرار في إخضاع الشعوب وإبقائها تحت السيطرة.
استباحت أميركا بلادنا، وأشعلت فيها الفتن، وجندت العديد من أبنائنا لخدمتها وخدمة أنظمة الاستبداد تحت ذريعة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكوني من فلسطين أرى كل يوم سياسات أميركا تتبلور قهرا وتفريطا في الحقوق الفلسطينية ومن قبل فلسطينيين يتشدقون بالشعارات الوطنية.
أوكل الاستعمار الغربي قبل خروجه العسكري المؤقت من البلدان العربية مهمة السيطرة على الشعوب العربية إلى وكلاء يأتمرون بأمره، وهو يتعقبهم ويشرف عليهم من بعيد، لقد وجد الاستعمار أن أفضل وسيلة لإبقاء العرب ممزقين وضعفاء تكمن في تنصيب حكام جهلة وضعفاء يؤثرون مصالحهم الخاصة ومصالح قبائلهم على مصالح الأمة العربية.
وكان يجب -بالنسبة للاستعمار- الإبقاء على العرب ضعفاء ومهمشين حتى لا تقوم لهم قائمة فيبنون حضارتهم من جديد ويشكلون منافسا قويا للحضارة الغربية، ونجح الغرب في ذلك إلى حد أن الحكام العرب لم يكتفوا بتمزيق العرب إلى إقطاعيات قبلية، بل عملوا أيضا على ضرب الوحدة الوطنية داخل كل قطر عربي بالتعاون مع الاستعمار الغربي، تم القضاء على طموح الوحدة العربية، ثم ضربوا طموح الإبقاء على الوحدة الوطنية، والآن يأمل العرب في أن تبقى المدينة الواحدة أو القرية الواحدة موحدة.
والإرهاب ضروري من أجل أن يبقى العربي مرعوبا جبانا وخائفا على لقمة خبزه، ولهذا كان لا بد من توظيف ميزانيات ضخمة لأجهزة الأمن العربية لكي تمارس حقارتها ضد المواطن العربي، ولا بد من دعم إسرائيل لتبقى القوة الأعظم في المنطقة العربية الإسلامية والتي تشيع الرعب في كل مكان، ولهذا كان لا مفر من صناعة تحالف عربي إسرائيلي لتتكامل قوى الإرهاب في المنطقة، وإذا كان لنا أن نفسر أسباب ظهور التنظيمات الجهادية في المنطقة فإننا نجد أن هزائم العرب أمام إسرائيل تشكل أكبر مولد لهذه التنظيمات.
دولة الإرهاب
منذ السبعينيات وأميركا تحاول إبعاد تهمة الإرهاب عن إسرائيل، وربما يكون هذا هو السبب الأساسي في أن أميركا رفضت البحث عن تعريف عالمي للإرهاب، وقد دفعت أميركا بقوة نحو تفسيرات دينية غريبة من شأنها إثارة الفتنة الداخلية بخاصة في صفوف المسلمين السنة، ولهذا ليس غريبا أن تكون كل التنظيمات الجهادية الموصوفة بالإرهاب من أهل السنة.
تعاونت دول عربية مع أميركا وروجت أفكارا دينية شيطانية جعلت من الإسلام دينا دمويا منحرفا أمام العديد من شعوب الأرض، وبدل أن يكون الإسلام عاملا أساسيا في توحيد الأمة أصبح عامل تمزيق في بعض الأحيان.
إسرائيل هي أكبر وكر للإرهاب في العالم، ولولا وجودها لما نشبت كل هذه الحروب في المنطقة العربية الإسلامية، ولما نزفت كل هذه الدماء ولما تهدمت بيوت وهلكت نفوس، وهي تعمل برعاية ودعم الولايات المتحدة.
لماذا ما زال الشعب الفلسطيني يعيش في المخيمات تحت ظروف قاسية؟ ولماذا تبقى غزة تحت الحصار؟ ولماذا يقع جزء من الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال؟ السبب هو إسرائيل ومن يدعمها من أهل الشرق والغرب.
الاحتلال بحد ذاته إرهاب، وأميركا كما أنظمة عربية عدة تقدم مختلف أنواع الدعم للاحتلال، وممارسات إسرائيل على مختلف المستويات من منع حرية تنقل الفلسطينيين إلى حقهم في المياه والبناء والتعمير تصب في خانة الإرهاب.
وإذا كان للعالم أن يصد الإرهاب وينهي وجود الجهات الإرهابية في المنطقة فعليه أن يبدأ بإسرائيل أولا، ثم بمن والاها من الأنظمة العربية.
أميركا ومن معها في حملتها الإرهابية الأخيرة تخطئ العنوان وتخطئ الهدف، وإسرائيل هي العنوان الأول للإرهاب، ولم يكن من الممكن أن يستمر هذا العنوان لولا الدعم الأمريكي نفسه، فهل لأميركا أن تحارب نفسها وربيبتها أولا قبل أن تتحدث عن داعش وعن تنظيمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية؟
هناك دول في المنطقة العربية الإسلامية تبحث عن دعم أميركي الآن لصد المنظمات المصنفة إرهابية، ولهذه الدول نقول إنها تستبدل إرهابا بإرهاب أشد وطأة، إنها كمن يريد إخراج المجرم بقوة من علمه الإجرام، توقفوا فأميركا ليست عونا بل معولا، ومن دعم الإرهاب لا يهون عليه التخلص منه.
وإذا كان لأنظمة العرب أن تتخلص من الإرهاب فإن عليها أولا أن تعترف بحرية المواطن العربي، وأن تغير أوضاعها السياسية وفق ما يتطلبه هذا الاعتراف، وثانيا أن تتوقف عن دعمها لإسرائيل التي لن تتوقف عن إشعال الفتن والحروب.
كاتب وأكاديمي فلسطيني