ما يحدث في اليمن، منذ 18 أغسطس/ آب الماضي، من احتجاجات واحتجاجات مضادة، على وقع التصعيد الميداني والمواجهات الدامية والحروب المتنقلة في مختلف أرجاء البلاد، بات يتجاوز حدود القضايا المطلبية إلى محاولة ضرب الأمن والاستقرار، ويحمل معه نذر انتشار الفوضى وجر البلاد إلى حرب أهلية جديدة، وكأن هذه البلاد لم يعد يكفيها ما تعانيه من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وحتى كوارث طبيعية متعددة.

هناك- بطبيعة الحال- قضايا مطلبية محقة، وهي تمس- بشكل مباشر- فئات شعبية واسعة، منها الشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً، التي لا شك في أنها تحتاج إلى معالجة جدية في بلد أنهكته الحروب والصراعات الداخلية، في وقت يتطلع اليمنيون إلى تغيير حقيقي ينتشلهم من كل هذه الأزمات، ويضعهم على أعتاب مستقبل أفضل.. لكن هناك أيضاً من المطالب ما يتجاوز مخرجات الحوار الوطني، وقدرة المرحلة الانتقالية على تحملها، مع كل ما يحمله ذلك من خطر صدام كارثي قد يغرق البلاد في بحور من الدم، وينقلها إلى مصير مجهول، يرجح ألاّ يخرج أحد منه منتصراً. فمطالبة الحكومة بالتراجع عن رفع أسعار الوقود واجتثاث الفساد وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، هي مطالب محقة ولا نقاش فيها، طالما ظلت بعيدة عن إثارة أي مخاوف فئوية أو مذهبية، وطالما بقيت الاحتجاجات سلمية كحق يجب أن يكفله القانون للجميع، فيما تظل المطالب الأخرى، مثل المشاركة في القرار السياسي والأجهزة الأمنية والرقابية والمؤسسات المختلفة، والتشاور حول الوزارات السيادية وما إلى ذلك، خاضعة لسقف الحوار والتوافق الوطني، إذ لا يمكن منح أي جهة سياسية حقوقاً وامتيازات تحت تهديد السلاح وبمعزل عن مكونات المجتمع الأخرى. في حين ينبغي أن تبقى هذه المطالب بمنأى عن التدخلات الخارجية، سواء كان ضمن الجوار الإقليمي أو على مستوى الساحة الدولية.

وبعيداً عن محاولات اقتحام رئاسة الوزراء ومطلب إسقاط الحكومة الانتقالية، فإن على الحكومة أن تبادر باحتواء الأزمة سلمياً أيضاً، مهما كانت شدة التباين، وفتح حوار معمق مع الحوثيين وكل القوى السياسية من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة لإدارة البلاد خلال ما تبقى من المرحلة الانتقالية، وحتى إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، على أن تتحمل خلالها مسؤولية حل الأعباء والمشكلات الاقتصادية والحياتية والخدماتية للمواطنين. لكن ذلك يقتضي من لجنة صياغة الدستور الجديد، العمل على تسريع استكمال المسودة الأولية لمشروع الدستور وإنجازه، ليتسنى اتخاذ الإجراءات اللازمة للاستفتاء عليه، تمهيداً لإجراء الاستحقاقين البرلماني والرئاسي.

ما بين الاستقرار والفوضى، لحظات فارقة يعيشها اليمن المفتوح على صراعات سياسية وجهوية متعددة، فيما شبح "القاعدة" لا يزال يتهدد كل مكونات البلاد.. وفي خضم هذه الصراعات تبرز أهمية تكاتف الجميع، وحشد الطاقات للحفاظ على وحدة البلاد، ومواجهة التهديد الوجودي الذي تتعرض له، ومنع شبح التقسيم أو الصوملة الذي بات ينذر بتفتيتها إلى دويلات متناحرة، لن تجعل من اليمن الذي كان سعيداً.. سعيداً على الإطلاق.

عن الخليج الإماراتية