لا يمكن الوقوف على الحياد واختيار منطقة الاستقلالية في جغرافية التغيير وأنت ترى الوطن بهيكليته الباذخة تاريخاً وجغرافية أمام تداعيات الخطر، الخطر الذي يعني الإلغاء والركون إلى الزاوية الميتة في ذاكرة هزيلة تحتفظ بحكايا تحاول جرَّنا إلى اجترار ماضويات الهزائم. إن الخطر الوجودي الذي يعانيه الوطن والذي تطبِّل له "أجندات" سياسية وفضائيات إعلامية يعني ممارسة جرمية سلوكية مع سبق الاصرار والترصد لاغتيال الوطن. والذين يحلمون بذلك متعكزين على هويات فرعية سيجدون أنفسهم أمام تحدي الفرعيات الأخرى والتي تعني الدخول بالمباشر في تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم.
ما يحصل في حضرموت من قتل للجنود في الجيش والأمن وما يحدث في بقية المحافظات من مشاكل أمنية عمل مدروس ومخطط ومنهجي لإشاعة الفوضى الأمنية في اليمن. فيما الأنظار تتركز حول صنعاء يتم فتح ساحات كثيرة في حضرموت وغيرهما لمشاغلة قوات الجيش والامن وتعطيل واجبها الوطني المقدس في حماية الوطن والذود عنه هو اختبار وتحذير شديد اللهجة للقادم من أيام الوطن الذي يسير مقترناً بسلوكنا، إذ ليس عيباً ولا مثلبةً أن نكون مختلفين ديناً ومذهبا وقومية, فهذا الاختلاف هو نسغ حياتي يدفع الى النمو والتطور والاكتمال ولكن العيب والخسران أن نختلف في الوطن ، فذلك يعني أن نخسر الوطن بكل منظوماته التكوينية (الدينية والقومية والمناطقية ) وبكل دلالاته التاريخية والجغرافية والاجتماعية والسياسية. حين يختلط الوجود بظلالة العدم فهذا يعني الوقوف عند ركائز ومقومات الوجود والدفع إلى أن تكون أكثر وضوحاً كي تزيح غمامة العدم، طبعا هذا لا يكون بحدود التنظيرات والرؤية الفوقية المتعالية عن مجريات الراهن ومتغيرات الحدث، بل تكون عبر سلوك منهجي واعٍ يبدأ حيث يجب أن يكون وهو الوقوف عن الهوية الجامعة والرابطة لوشائج المتفرع والمتشابك، والانزياح منها الى قراءات معمقة علاجية مقومة تستدعي التاريخ الباذخ ليكون معينا لها، فاليمن بحسابات التاريخ وأوراقه وحكاياه لم يحتكر لنوع او طائفة أو دين أو قومية أو مذهب ،بل أن متنوعاته الدينية والقومية والمذهبية ساهمت في تميزه وإبداعه النوعي ضمن المجموع والفرد، فعنده دون غيره أخرج التاريخ لسانه متحدثاً، وهو وليس الآخر من دوّن السلوك والافكار لتكون تشريعا لاسس المدنية والدولة والقانون ، إذ لم يكن حضارة مأرب وعرش بلقيس أو غيرهم من شخوص اليمن الحضارية ينتمون الى فرعيات’ فقد كانوا ينتمون الى الدولة التي استقرت بالتناسل المتطور لتكون اليمن،لم تكن صنعاء وعدن والجوف ومأرب وحضرموت خارج سيمفونية اليمن الخالدة.
إن الضخامة الضاجة بالعمق والأصالة الضاربة بقوة في جذور التاريخ تكويناً وتشكيلاً لا يمكن أن تكون نهباً لخطرٍ وجودي. إن الخطر الحقيقي ليس مقترناً بالقادم أو الآخر المحمل بـ"أجنداته" والمحمّل بأحقاده. إن الخطر الحقيقي هو في الداخل، في المنتمي الذي يحاول الخروج من العام الى الخاص ومن الكل الى الجزء خروجا ربما ساهمت فيه ظروف أو مراحل معينة بحثاً عن حالة اطمئنان ،لكنه بالمطلق الخروج الخاطىء عن دائرة اليمن الموحد.
إن المراحل الحياتية للوطن كانت مراحل صعبة طرزت صفحاتها الدماء حياة الوطن كانت قدريات محفوفة بالألم والحزن والخوف والدم, كما كان الإبداع والتميز والحضارة قريناً له أيضا، وربما يُثار السؤال الكبير وهو: كيف يواجه اليمن خطراً وجودياً المتمثل بخطر الإرهاب وهو بكل هذا الإرث والضخامة والتحدي؟ والجواب هو أن الخطر دخل كطحالب ونما وترعرع على خلافاتنا التي أوجدتها الأزمات السياسية المتلاحقة التي القت بإسقاطاتها على النسيج الاجتماعي فأحدثت شرخاً فيه، وعلينا أن نعالجه بمزيد من التماسك والتشبث بالهوية الوطنية. المرحلة الدقيقة والحساسة التي يمر بها اليمن الوطن والشعب مرحلة حرجة يجب أن تحضر لغة العقل والمنطق وتغليب الحكمة بدلاً من لغة والتهديد والتصعيد هو ما يجب الاحتكام إليه اليوم اكثر من أي وقت ماضٍ عبر اصطفاف وطني من كافة أبناء شعبنا، وفي طليعتهم القوى السياسية والحزبية والفعاليات الاقتصادية والثقافية والإعلامية ومنظمات المجتمع المدني.. الكل بدون استثناء مدعوون إلى تحمل المسؤولية الوطنية والارتقاء الى مستوى متطلبات واستحقاقات التحديات والأخطار التي تحاك ضد اليمن أرضا وإنسانا ، وأعتقد أن الخطابات المتتالية للأخ الرئيس المناضل عبدربه منصور هادي رئيس الجمهورية في لقائه قبل أيام بأعضاء مجالس الوزراء والنواب والشورى وقيادات الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الى أن الوطن أمام مفترق طرق، فإما أن ننفذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، وننجح في عملية الانتقال السياسي ونمضي نحو المستقبل الآمن أو ان تنتكس الانجازات التي تحققت حتى الآن والعودة الى سيناريوهات الرعب والخراب والدمار والاقتتال الداخلي على ذلك النهج الذي نراه في بعض الدول العربية كسوريا وليبيا وغيرها والتي أصبحت تعيش حالة من الفوضى والاقتتال الداخلي.
لقد حان الوقت لأن تتضافر جهود كل القوى السياسية والعمل معاً لاستكمال النجاحات المحققة على صعيد تنفيذ المبادرة الخليجية ومؤتمر الحوار الوطني التي تمثل خارطة الطريق الآمن لكافة اليمنيين صوب الغد المشرق, فمن خلال تنفيذ وثيقة مخرجات الحوار هي التي وحدها الكفيلة بوضعنا على الطريق الصحيح لبناء اليمن الجديد الاتحادي الجمهوري الديمقراطي المؤسس على التصالح والتسامح والشراكة في السلطة والثروة، والذي بكل تأكيد يلبي آمال وتطلعات التغيير التي ناضل وقدم التضحيات من أجل بلوغها لتصبح واقعاً متجاوزاً لازمات الماضي.
إن الوطن لم يكن حكراً على فرد أو نوع أو انتماء قومي أو ديني أو مذهبي. إن الوطن هو ملك لجميع أبناء اليمن بمختلف توجهاتهم السياسية والاجتماعية ويكتمل بالجميع ونستطيع أن نحقق ذلك لنكون أبناء بررة لمرحلة تاريخية ومصيرية وحساسة من حياة الوطن وهي تنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني. الخطر كبير ولكنه ليس بالصعب واليمن قادر على أن يجدد في كل يوم عنفوان وجوده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحث ومتخصص في شؤون التربية الخاصة.
فارس قايد الحداد
تنفيذ مخرجات الحوار الوطني مسؤولية وطنية 1329