إن الحديث عن الفساد لا يخص مجتمعاً بعينه أو دولة بذاتها, وإنما هو ظاهرة عالمية تشكو منها كل الدول , لما له من خطر على الأمن الاجتماعي والنمو الاقتصادي والأداء الإداري.
ومن هنا حازت هذه الظاهرة على اهتمام كل المجتمعات وكل الدول وتعالت النداءات إلى إدانتها والحد من انتشارها ووضع الصيغ الملائمة لذلك.
لا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات- قديمها وحديثها- من مظاهر الفساد الإداري بما فيها مجتمع الإسلام على الرغم من الطهر والعفاف والعفة والنقاء التي ميزت الفكر الإسلامي على مر العصور والأزمنة.
إن الناظر لا تخطئ عيناه صور الخلل، والمفارقات الكبيرة والمباينات الشاسعة بين واقع الأمة ومنهج الإسلام. فالناظر يرى صور الانحراف كثيرة وعميقة ومتعددة الأمثلة وبيّنة فيما تبديه من ممارسات ظاهرة أو مستترة، حتى أن الإنسان إذا أمّعن في جمع هذه المتفرقات وأكثر من حشد الأمثلة والصور, ظهرت حينئذ ربما صورة مفزعة، تجعل اليأس يدب إلى النفوس، ويوهن من عزائمها, حتى قال الشاعر يرثي حال الأمة:
بلغت أمتي من الذل حــــــــداً
فاق في سوئه جميع الحـدود
فلقد أصبحت تجر خطــــــاها
مثقلات في ذلـــــــــة ونكـــود
بعد أن كانت العزيزة صارت
رمز ذلة وأمـــــــــــة التشريد
فيا عجباً لأمة (اقرأ) كيف خدّرها الجهل!
و يا عجباً لأمة (سورة الحديد) كيف أناخ بها الضعف!
و يا عجباً لأمة (سورة العصر) كيف رضيت أن تكون خارج العصر !
و يا عجباً لأمة تنام في النور ولأمم تستيقظ في الظلام !
بأيديهمُ نُوران: ذكرٌ وسُنةٌ وهم في أحلك الظلمات
لقد تناول القرآن جانب الفساد, وتعددت الآيات التي تذكر لفظ الفساد, فالانطباع الأول الذي تبادر عند الملائكة حينما خلق الله آدم, وأخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة كان استفهاماً استغرابياً عن إنشاء هذا المخلوق الجديد , وذلك بقولهم: { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } , ومعنى ذلك بأن الأرض كانت مكاناً يسوده الاطمئنان والسلام والهدوء لا فساد فيها ولا خراب ولا تجاوز ولا تعدٍ حتى كان هذا المخلوق المكرّم عند الله هو مبدأ الفساد وسفك الدماء , وكان الرد الرباني على هذا الاستغراب الملائكي: { قال إني أعلم ما لا تعلمون } , إشارة إلى سر في هذا المخلوق وحكمه في وجوده على الأرض وطبيعته ومسيرته وتكامله فيها , ولعل في الجواب الإلهي للملائكة إقرارا بهذا الجانب في الظاهرة الإنسانية وكأن الفساد وسفك الدماء ملازمان لطبيعة الإنسان بما يملكه من قدرة على الاختيار والإرادة والتجاوز: { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا }.
ومما سبق نخرج بحقيقة أن الفساد ظاهرة إنسانية تحكمها قوانين الإنسان فردا ومجتمعا , وأن ما يقابل هذه الظاهرة هو الصلاح والإصلاح وأن حركة التضاد الموجودة بين هاتين الظاهرتين هي من العوامل التي تحكم مسيرة الأمم على الأرض ومن ثم تحكم مسيرة الإنسان ونهاية الأرض: { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون }
عزيزي القارئ:
والفساد حجر عثرة أمام أي تقدم, وحاجز أمام الوضوح والشفافية بين الحاكم والمحكوم! " وسوء استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة "هي الفساد الذي تعيشه بلادي منذ الإمامة وحتى في ظل حكم الملكيون في زمن الجمهورية الذي تربع على كرسي الحكم ثلاثة عقود ويزيد وماحكم علي صالح برشيد وحتى حكم الرئيس هادي"..
وهذا سبب تعثرنا وعدم تقدمنا في شتى المجالات المختلفة, وما نعانيه اليوم ونكابده من مر وما يعكر صفونا ويكدر خاطرنا وينغص عيشنا ويجلب لنا كل مصائب الدنيا وبلاوي الحياة ويدهور اقتصادنا ويضعنا خارج نطاق الرقي التعليمي والاقتصادي وخارج نطاق التطور الحكومي وخارج نطاق التقدم العسكري إلا ذلك الفساد المتجذر في بلادي.
عزيزي القارئ: إن الفساد الإداري سم زعاف وسلاح فتاك يدمر الأوطان وينهك المؤسسات ويدخل النخب الثقافية والشبابية وغيرها في غيبوبة بل يسلب كل فئات المجتمع هيبتها وتجعلها في حالة صعبة لا تبرأ منها مادامت أذرع أخطبوط الفساد الذي نثرها المفسدون تتخلل في المجتمع وكل المرافق والمؤسسات ولاشك ولا ريب أن من أبرز الفساد الإداري وأهمها:
1. لانحرافات التنظيمية, ويقصد بها تلك المخالفات التي تصدر عن الموظف في أثناء تأديته لمهمات وظيفته والتي تتعلق بصفة أساسية بالعمل ومن أهم الانحرافات التنظيمية:
• عدم احترام العمل, ومن صور ذلك: (التأخر في الحضور صباحا – الخروج في وقت مبكر عن وقت الدوام الرسمي – النظر إلى الزمن المتبقي من العمل بدون النظر إلى مقدار إنتاجيته – قراءة الجرائد واستقبال الزوار – التنقل من مكتب إلى آخر.
• امتناع الموظف عن أداء العمل المطلوب منه, ومن صور ذلك: (رفض الموظف أداء العمل المكلف به – عدم القيام بالعمل على الوجه الصحيح – التأخير في أداء العمل.
• التراخي ومن صور ذلك: " الكسل – الرغبة في الحصول على أكبر اجر مقابل أقل جهد – تنفيذ الحد الأدنى من العمل".
• عدم الالتزام بأوامر وتعليمات الرؤساء, ومن صور ذلك: "العدوانية نحو الرئيس – عدم إطاعة أوامر الرئيس – البحث عن المنافذ والأعذار لعدم تنفيذ أوامر الرئيس".
• السليبة, ومن صور ذلك: " اللامبالاة – عدم إبداء الرأي – عدم الميل إلى التجديد والتطوير والابتكار – العزوف عن المشاركة في اتخاذ القرارات – الانعزالية – عدم الرغبة في التعاون – عدم تشجيع العمل الجماعي – تجنب الاتصال بالأفراد".
• عدم تحمل المسؤولية , ومن صور ذلك:" تحويل الأوراق من مستوى إداري إلى آخر – التهرب من الإمضاءات والتوقيعات لعدم تحمل المسؤولية".
• إفشاء أسرار العمل.
2. الانحرافات السلوكية , ويقصد بها تلك المخالفات الإدارية التي يرتكبها الموظف وتتعلق بمسلكه الشخصي وتصرفه, ومن أهمها:
• عدم المحافظة على كرامة الوظيفة, ومن صور ذلك:" ارتكاب الموظف لفعل مخل بالحياء في العمل كاستعمال المخدرات أو التورط في جرائم أخلاقية".
• سوء استعمال السلطة, ومن صور ذلك " كتقديم الخدمات الشخصية وتسهيل الأمور وتجاوز اعتبارات العدالة الموضوعية في منح أقارب أو معارف المسئولين ما يطلب منهم".
• المحسوبية , ويترتب على انتشار ظاهرة المحسوبية شغل الوظائف العامة بأشخاص غير مؤهلين مما يؤثر على انخفاض كفاءة الإدارة في تقديم الخدمات وزيادة الإنتاج.
• الوساطة , فيستعمل بعض الموظفين الوساطة شكلا من أشكال تبادل المصالح.
3. الانحرافات المالية, ويقصد بها المخالفات المالية والإدارية التي تتصل بسير العمل المنوط بالموظف , وتتمثل هذه المخالفات فيما يلي:
• مخالفة القواعد والأحكام المالية المنصوص عليها داخل المنظمة.
• فرض المغارم , وتعني قيام الموظف بتسخير سلطة وظيفته للانتفاع من الأعمال الموكلة إليه في فرض الإتاوة على بعض الأشخاص أو استخدام القوة البشرية الحكومية من العمال والموظفين في الأمور الشخصية في غير الأعمال الرسمية المخصصة لهم.
• الإسراف في استخدام المال العام, ومن صوره: ( تبديد الأموال العامة في الإنفاق على الأبنية والأثاث – المبالغة في استخدام المقتنيات العامة في الأمور الشخصية – إقامة الحفلات والدعايات ببذخ على الدعاية والإعلان والنشر في الصحف والمجلات في مناسبات التهاني والتعازي والتأييد والتوديع".
4. الانحرافات الجنائية , ومن أكثرها ما يلي:
الرشوة والتزوير واختلاس المال العام
عزيزي القارئ: إن الفساد الإداري آفة لا تقل خطورة عن أي آفة مهلكة , وأي آفة لا نتصدى لها ونجتث جذورها فإنها لا تُبقي ولا تذر , وتقتل كل الإمكانيات المتاحة للأمة سواء المادية منها أو القدرات البشرية , وكم من أمة من الأمم أفِل نجمها بل وزالت من الوجود بسبب الترهل الذي سببه تراخيها عن مقارعة تلك الآفة.
فما تمر به اليمن من مراحل وما تلاقي من منغصات العيش الكريم والمطبات المرة التي مرت ولازالت تمر بها بلادنا الحبيبة, لهي نتيجة الفساد الإداري.. فيا ترى متى ستنتهي هذه الظاهرة؟..
هشام عميران
الفساد الإداري..غريمُكِ يا بلادي (1) 1260