أشهر قليلة وتشرق علينا شمس العام السبعين على ميلاد منظمة الأمم المتحدة، التي رأت النور غداة الحرب العالمية الثانية (1945) بهدف وضع لبنة تعايش موحدة بين الدول تجنيبا لها من الدخول في ويلات حرب عالمية ثالثة، واضعة مبادئ في ميثاقها يتوجب على جميع الفاعلين في المجتمع الدولي احترامها والتقيد بها قصد تحقيق الهدف المنشود المتمثل في حفظ السلم والأمن الدوليين.
غير أن هذه العقود السبعة عرفت العديد من التغيرات والتقلبات والمنازعات الدولية يمكن أن نقول إنها كرست بوضوح فشل هذه المنظمة كهيئة فوق الدول في تحقيق الأهداف التي قامت عليها.
ففي فترة قصيرة بعد توقيع ميثاق سان فرانسيكو، دخل العالم في مطبات حرب باردة بين قطبين متناقضين إيديولوجيا أحدهما غربي بقيادة الولايات المتحدة والآخر شرقي تحت زعامة الاتحاد السوفيتي، إثر تبني الأولى لمبدأ رئيسها ترومان (سياسة الإحتواء) جابهته الثانية بمبدأ جدانوف (الكومونفورم)، وما تبعه من مخططات من هذا الطرف وسياسات مضادة من الآخر، ما أدخل عمل مجلس الأمن في جمود بفعل الاستعمال المتواتر للفيتو من قبل القوتين العظميين لتعطيل جميع مشاريع القرارات المقترحة من أحديهما.
وفي خضم هذا الشلل الذي طبع عمل مجلس الأمن، تشكلت كتلة ثالثة تمثلت في دول عدم الانحياز والتي ساهمت ولو بشكل محدود في تطوير القانون الدولي عن طريق استصدارها للعديد من القرارات عن الجمعية العامة وأهمها: القرار 1514 المتعلق بـ “حق الشعوب في تقرير مصيرها”، القرار 2131 الخاص بـ “عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول” والقرار رقم 36/103 الذي يشير إلى عدم جواز إتخاذ ذريعة التدخل الإنساني للتدخل في شؤون الدول الداخلية…
ورغم مطالبة دول عدم الإنحياز للقوتين العظميين بإحترام القواعد الآمرة للقانون الدولي، إلا أنهما ما لبثتا تخرقانه عن طريق المس بسيادة الدول والتدخل في شؤونها الداخلية، ما ترجم في الواقع عن طريق العديد من التدخلات العسكرية الغير شرعية في شتى أصقاع العالم وخصوصا العالم الثالث الذي كان موضوعا لها.
وإبان انهيار الاتحاد السوفيتي، تمادى العديد من المحللين والمنظرين في التفاؤل تجاه نظام دولي جديد ـ الذي جاء بمفهوم العولمة ـ مبني على إصلاح أخطاء الماضي والاحترام التام والشامل للقانون الدولي والتحول من مرحلة التعاون الدولي إلى التضامن الفعلي الذي يحمي حقوق جميع الدول.
إلا أن واقع الحال كرس هيمنة الولايات المتحدة داخل المجتمع الدولي كقطب وحيد، عملت على استخدام مجلس الأمن قصد استصدار قرارات تخدم مصالحها الخاصة ومن بينها القرارين 731 و 748 بشأن الأزمة الليبية الغربية (لوكربي)، حيث خلط المجلس الأوراق السياسية بالقانونية، إضافة إلى العديد من القرارات الأخرى والتي لن يسعنا هذا المقال لسردها.
كما عملت الولايات المتحدة على تكريس هيمنتها الأحادية على المجتمع الدولي عن طريق إرساء مفاهيم جديدة وأهمها التدخل الإنساني ولو لزم الأمر استخدام الوسائل القسرية المنصوص عليها في الفصل السابع من الميثاق الأممي، ولنا هنا في الصومال، كوسوفو وليبيا خير مثال على ذلك، هادفة إلى تليين وإضعاف قاعدتين آمرتين في القانون الدولي هما: عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام سيادة الدول.
تليين الولايات المتحدة للقواعد الآمرة في القانون الدولي لم يقف عند هذا الحد، وإنما امتد إلى مبدأ عدم استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية، وذلك عن طريق تدخلها عسكريا في العديد من الدول مستغلة الاستثناءات التي جاءت على هذه القاعدة في الميثاق الأممي، كالمادة 51 التي تنص على حق الدفاع الشرعي عن النفس في حالة تعرض دولة ما للعدوان من طرف دولة أو مجموعة من الدول والتي كيفتها في حربها ضد أفغانستان بدعوى الدفاع الشرعي عن النفس ومن ثم محاربة الإرهاب أينما وجد، علما أن قرار الجمعية العامة رقم 3314 الصادر بتاريخ 14/12/1974 أعطى تعريفا واضحا للعدوان يتنافى تماما عن تأويل و.م.أ لهذا القرار.
كما أن المادتين 94 و 42 جعلتا الباب مفتوحا لمجلس الأمن وبالتالي للولايات المتحدة الأميركية للتدخل عسكريا في حالة امتناع دولة لجأت لمحكمة العدل الدولية عن تنفيذ قراراتها أو في حالة وجود حالة تهدد السلم والأمن الدوليين.
وها نحن اليوم أمام أوضاع شبيهة تماما بالأوضاع التي شهدها المجتمع الدولي خلال الحرب الباردة، فالولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تتأرجح نوعا ما عن كرسي الزعامة، واقتنع صانعوا القرار بالبيت أنه لم يعد بمقدرتها قيادة العالم لوحدها ولعب دور الدركي الذي ينشر الديموقراطية على ظهر الدبابات في ظل الأزمة الاقتصادية التي تتهدد الاقتصاد الأمريكي والعالمي، مع بروز الدب الروسي والتنين الصيني في الساحة الدولية من جديد واستعمالهما للفيتو لأول مرة منذ سنوات عجاف وطوال في الأزمة السورية وتهديدهما بتوسيع الصراع في حالة عدم امتثال الولايات المتحدة للشرعية الدولية والتدخل خارج صلاحيات مجلس الأمن.
إن ميثاق الأمم المتحدة وما شابه من ثغرات يدفعنا للتأكيد على ضرورة الإصلاح عن طريق توسيع تمثيلية الدول داخل مجلس الأمن على أساس التوزيع الجغرافي العادل و لم لا خلق آلية فيتو إقليمي والتي نادى بها العديد من المفكرين أيام الحرب الباردة، إضافة إلى التوزيع العادل للثروات بين الشعوب، فلا يعقل أن تتمركز 95 % من الثروات والاستثمارات ورؤوس الأموال في دول الشمال التي تتكون من 25% من ساكنة العالم في حين أن 75% من ساكنة العالم المتمركزة في دول الجنوب لا تستفيد سوى من5 % في ظل استنزاف ثرواتها من الشركات المتعددة الجنسية، فهل هذا هو النظام السياسي والاقتصادي العادل الذي جاءت به الديموقراطيات الغربية!!
إن إصلاح الوضع القائم المتميز بالفوضوية لن يرى النور إلا بتكتل دول الجنوب ونهجها للتعاون جنوب ـ جنوب، ووضعها لاستراتيجيات ومخططات مدروسة سواء على المستوى الاقتصادي، التكنولوجي، العلمي والاجتماعي، قصد النهوض بمجتمعاتها وتقوية اقتصادها وامتلاك قراراتها السيادية، وذلك إيمانا منا أن دول الشمال تجد في القانون الدولي خير قانون وجد لكونه يتماشى ومصالحها وتعديله سيكون من درب الخيال، ما يستوجب فرض دول الجنوب لنفسها داخل المجتمع الدولي وخلقها لحد أدنى من التوازن الاستراتيجي.
كما نرى أن تغير النظام الدولي من القطبية الأحادية إلى الثنائية القطبية ومن ثم إلى تعدد الأقطاب لن يأتي بالكثير لدول الجنوب بقدر ما سيجعلها مواضيع للعلاقات بين القوى العظمى يتم فيها تصريف المشاكل عن طريق حروب الوكالة.
إننا اليوم أمما مفترق طريق يفرض على دول الجنوب القطع النهائي مع سياسات الانحياز والكيل بمكيالين في تعاطيها مع القوى العظمى، ويجعل من تحولها إلى فاعل في العلاقات الدولية شرطاً ضرورياً لفرض الإصلاحات المنشودة.
سامي السلامي
المجتمع الدولي ما بين الشرعية والفوضى 1249