"حماس انتصرت".. هكذا عنونت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية على ما نشيت عريض في صفحتها الأولى من عدد الأربعاء الماضي .
ليس هذا فقط بل أن "غيورا آيلند" اللواء المتقاعد في جيش الاحتلال يقول- في مقابلة أجرتها معه صحيفة "يديعوت احرنوت" العبرية- إن حماس لديها جيش قوي ونوعي وقادر على الانتصار.
إسرائيل ثارت براكينها في وجه قيادتها.. وغضبت للانسحاب المعلن، والهزيمة النكراء للإسرائيليين. وحدوث خسائر كبيرة بشرية ومادية.. بل أن إعلان الحرب مسبقاً على القطاع؛ كانت خطوة غير مدروسة وغير مضمونة النتائج وليس لها أي أساس على التعمق اكثر، وشن هجوم عنيف من مختلف الجوانب على غزة.
الهدنة التي حدثت امس الأول ومدتها 72 ساعة والتي قُدمت على طبق من ذهب لطرف الخصم لغزة.. جاءت كمخرج لإنقاذ الجيش الإسرائيلي من هاوية السقوط وانهيار البنية الجسدية أمام ما يحدث من صمود ، ومقاومة في القطاع .. حتى أن بنيامين نتنياهو خلق مبررات لذلك .. كي يضع لنفسه مخرجاً من النفق الذي تعمَّق وانحدر فيه بأسلوب جيد ومقبول والرجوع من الحرب على أساس صياغتها بقواعد, الهدف منها هدم وتحطيم نمط معين من القطاع وهو الأنفاق المزروعة تحت الأرض .. وهو ما كذبه معظم الجنرالات والضباط في الجيش والصحافة .. بل أن نسبة 50% من الإسرائيليين يقولون إن حماس انتصرت في المعركة وان إسرائيل لم تحقق أي هدف حسب استطلاع صحيفة عبرية.
نتنياهو وبخيبة أمل ونكسة عصفت على وحله.. ادرك حتماً انه ليس بإمكانه القضاء على المقاومة في غزة ولا خيار أمامه سوى الانسحاب بأي طريقة في ظل حسابات وخطوات خاطئة غير مدروسة في قرع طبول الحرب أدت إلى الفشل ، وتشويه صورة إسرائيل وقيادتها في العالم.
وشعر بالخوف والقلق وهو يشاهد آلاف الصواريخ تتساقط مطراً على تل أبيب وضواحيها، وذُهل من صمود المقاومة وثبات رجالها، ويتألم وهو ينظر إلى جنوده وهم يتساقطون كريش الطير على الأرض.. وينغرس في كاهله ألماً وهو يلتفت إلى سكان إسرائيل وهي نازحة ، مُهاجرة ، لاجئة, تاركاً خلفها منازل خاوية فارغة قد سكنها الخوف وأصابها بعض من شظايا الصواريخ القادمة من القطاع .
لقد اثبت المقاومة وجودها الصارم ، وعزمها الثابت ، وصمودها القوي في أرض المعركة .. دون أي تأثير سياسي رغم العروض الهائلة ، والوفود الدولية المتفاوتة لقبول ذلك .وهذا ما أهَّلها لتأسيس جيش قوي وحماية قصوى، وبنية جسدية ، ورجال أبطال .. جاهزة على مواجهة العدو، ومقاومته في احلك الظروف وقادرة على الانتصار متى صح عزمها .
غزة انتصرت برجالها ، وجهودها.. بصمودها، وثباتها.. بهمتها الصلبة، وقوتها الجبارة في دحر العدو وشل حركته وامتصاص إمكانياته ، وحرق شباك قوته، وقص نفوذه وأذرعه.
غزة انتصرت بمفردها .. دون دعم أو مساندة عربية .. بل وللأسف الشديد حدث العكس وهو ما يفرط بنا أن نكون عرباً ، ونحمل في قلوبنا ضمير إنسانياً حياً ، ونخوة عربية .
غزة انتصرت في وقت تآمر العالم كله عليها .. فلم تلد من ذلك بُداً .. حتى رجعوا خاضعين ، ذليلين ، منحطي رؤوسهم كالأنعام .
غزة انتصرت لأنها لم توافق بأن يكون لها شريك أو داعم من أي دولة كي لا يكون تحت تأثير توافقي ، أو غطاء سياسي .
غزة انتصرت لأنها سلكت طريق المقاومة والصمود دون سواهما.. واختارت العبور على جسر الإيمان بالله تعالى والثبات بنهجه، والحكم بدستوره، وقوته المسنودة إلى قوة وثبات المقاومة ومشدود الجهود ، وتكاتف الأبطال للوصول إلى نقطة النصر ودحر العدو من أرض الديار.
غزة انتصرت للعروبة واسترجعت كرامة الإنسان المسلوبة وقطعت شريط التهاون والانتهاك الإنساني المنحدر ، وحررت أرضها من سلاسل الاحتلال الظلامية المقيدة.
غزة انتصرت رغم أنف الجميع، رغم السكوت المخزي الفظيع، رغم الخذلان العربي المُمِيت، رغم التحالف مع العدو الخبيث، رغم غفلة النسيان وعدم النظر إلى الطفل البري، رغم غياب التلاحم الأخوي, ودفن شيء اسمه الضمير.
هكذا استطاعت غزة أن تزرع مجد صمودها ، وتخلق شمس حضارتها ، وتُنير مصابيح ضيائها، وتصنع معجزة عظيمة قلَّ ما وجدت في عالمنا اليوم وحاضرنا المعاصر . واستطاعت أن تُحدث نقلة نوعية في تلمس الواقع والتحول من نقطة الدفاع للهجوم ومن تلقي ضربات الهزيمة إلى تحقيق درجات النصر .
لقد جعلت غزة من نفسها قيادة رشيدة ، وإدارة حكيمة ، واتخذت منهما مكانة عالية ، وتحولت إلى أسطورة عالمية ، وقوة لا يستهان بها أذهلت العالم بصلابتها الفولاذية .
أجبرَ رجال المقاومة الجيش الإسرائيلي إلى الانسحاب والهروب من غزة وتركوا وراءهم علامات استفهام كثيرة, تبحث عن أجوبة واستفسارات عديدة لا هروب منها .. عن قتل للأبرياء والأطفال ، ودمار وخراب للمباني والأحياء .. دون تحقيق هدف ظاهر على السطح ، وملموس على ارض الواقع. فقط سقوط وجه إسرائيل. وانعكاس سلبيات قوتها الضعيفة التي تتظاهر وتتفاخر بها أمام أهالي غزة والضفة الغربية .
لقد لقَّنتْ المقاومة في غزة إسرائيل درساً قاصياً لن تنساه أبداً ؛ في الكفاح والصمود .. وإثبات هوية العزيمة والإصرار ، وإبراز روح القتال ، وعدم الخضوع لأي مطلب تحت أي ظرف يتسبب بشنق حبل مطلب هام ، قضية وطنية بحجم أمة .
ستضل هزيمة وانكسار إسرائيل- رغم تجدد القصف على القطاع بعد الهدنة- لعنة في جبين إسرائيل -، وكابوساً مرعباً سيلاحق السلطة الإسرائيلية فترة طويلة من الزمن ، وطعنة خنجر مغروسة في خاصرة الأمة العربية وزعمائها..
وستكون انتصار المقاومة حديث الساعة المتداول بين حين وآخر على لسان الشارع .. وستُحرك عقارب الزمن سلسلة أحداث ستبثها الأيام وستُخلد في دفتر الذكريات وستضع توقيعاً خالداً ورزماً بطولياً في ذاكرة التاريخ وسجل الأبطال.
*كاتب صحفي- يمني
راكان عبدالباسط الجبيحي
غزة انتصرت وإسرائيل انكسرت 1185