لا حديث للناس في العالم اليوم إلا عن غزة.. عن الدم وعن الصورة، هذا الاختراع العجيب الذي يقول كل شيء دونما حاجة إلى الكلمة، هذه التي كانت هي الأولى وكأن لا تعبير عن الأفكار والأحداث والأشياء إلا بها.
لقد تزحزحت الكلمة كثيراً عن موقعها وتركت مهمة التعبير المباشر والسريع للصورة أو بالأصح للكاميرا، هذه العين اللاقطة التي لا تخفي شيئاً ولا تداري جزئية من منظر أو زاوية، هي معجزة العصر الحديث، وأداة الإعلام المعاصر الذي انزوى هو الآخر، تاركاً لغته المموهة للغة أخرى لا تجيد التمويه واللعب بالكلمات . وإذا كان لا يزال للإعلام دور في هذه اللحظات من العصر فهو الاعتماد على الصورة، وتحديد مكانها إن كان المكان الذي تنقل عنه لا يزال مجهولاً، ولم يكن في وضوح المكان العربي وبقعة الضوء فيه، وهي الآن غزة المقاومة الدامية التي قدمت وتقدم بسخاء المئات من أبنائها، وتضحي بالأهم من بُناها الحيوية .
لم نعد قادرين على سماع الكلام، والأغلبية من البشر يكتفون بالنظر إلى الصورة، وما تقوله في لقطات شديدة الوضوح عميقة المعنى والتعبير.
وتبقى الكاميرا في مثل هذه الحال، أصدق بما لا يقاس من كل الكلمات في رسم صورة الإنسان الفلسطيني المقاوم، هذا الذي لم تعد تفزعه ترسانة الحديد والنار التي يمتلكها العدو الصهيوني، ولا طائراته ودباباته، ولا زحفه البري والبحري.
الإنسان المؤمن بقضيته وبعدالة هذه القضية هو القوة التي لا تقهر ولا تنهزم. القنبلة أداة صماء، والقذيفة أداة صماء. الإنسان بعقله وإيمانه وإصراره، هو الأقدر على مواجهة هذه الأدوات الخرساء والتحايل عليها وإبطال مفعولها المادي والنفسي وتحويلها من أداة قاتلة ومدمرة بيد العدو إلى أداة قاتلة ومدمرة للعدو نفسه.
هذا ما تقوله اللحظة الغزّاوية الآن، وكما ظلت تقوله دائماً.
الكلمة ذات بعد واحد في نقلها لما حدث في فلسطين عامة، وفي غزة بخاصة، بينما الصورة متعددة الأبعاد تدخل إلى قلب الحدث، وتتابع مجرياته من الجوانب المختلفة. وبهذا تكون قد سرقت الأضواء وسلّطتها بإتقان إلى حيث ينبغي أن تكون.
وهناك - لا شك - كاميرا أسيرة الأيدي الخائنة تحاول أن تنقل الصور الجانبية لما يحدث، الصور المخالفة للحقيقة، تلك التي تخفي دور الإنسان المقاوم، وبطولاته الخارقة، ولكن هذه الصور الخائنة لا تستطيع رغم كل ما يصاحبها من تقنيات أن تغير شيئاً من الواقع كما هو، أو التشكيك في دور الإنسان صاحب العقيدة والمبدأ والقضية.
وهذا ما صار عالم اليوم يدركه بوضوح غير مسبوق من خلال ما يجري على الأرض، أرض فلسطين. هناك في غزة في شوارعها الرئيسة، وفي أطرافها، وما يحاصرها من حرائق وموت مستمر. صور المدارس المدمرة على تلاميذها، صور المستشفيات المقصوفة بالقذائف والصواريخ.
الصورة تقول، كما يقول الواقع إن المواطن الفلسطيني لم يعد لديه ما يخاف عليه أو يخاف منه، فالحياة تحت الاحتلال وتحت الحصار لا تختلف كثيراً عن الموت نفسه، ومن هنا يأتي اقتناعه بأهمية الصمود ومواصلة المقاومة، مهما كانت الخسائر.
ويبدو أن العدو الصهيوني لم يشعر بالخوف كما شعر به في هذه الحرب التي قد لا تكون الأخيرة بل البداية، وأنه بدأ يدرك كما لم يدرك من قبل أهمية الخصم الذي يقف في مواجهته، ومدى ما يتمتع به من قدرات على التصدي والاقتحام والاقتراب من زمن الانتصار.
الخليج الإماراتية
د/عبد العزيز المقالح
غزة الدم والكاميرا 1210