أعلن الرئيس الأميركي بارك أوباما أن سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) على الموصل، ومناطق عراقية أخرى، يمثل تهديدا خطيرا لأمن الشرق الأوسط. وأن الأزمة السورية باتت تلقي بظلالها على الاستقرار الإقليمي.
والسؤال هو: ماذا حدث في العراق، وما هي عواقبه؟ وقبل ذلك، كيف أثرت الأزمة السورية على الواقع العراقي؟
أثقال الجغرافيا والتاريخ
في الأصل، ثمة ترابط وثيق بين سوريا والعراق، صنعته الجغرافيا والتاريخ، ووحدة الإطارين الاجتماعي والحضاري.
وكان بدوي الجبل قد كتب أبياته الخالدة عن وحدة لا تحجبها الحدود والسدود، كما كتب محمد الفراتي عن الوادي الذي جمع وألّف.
وفي السياسة، كانت الوحدة مع العراق في قائمة أولويات غالبية الأحزاب الوطنية والقومية في سوريا، منذ ولادة الدولة السورية الحديثة.
وقبل الجلاء عام 1946، كانت مسألة العلاقة مع الجوار السوري، حاضرة لدى قادة الثورات السورية المتعاقبة، أمثال الشيخ صالح العلي، وسلطان الأطرش، وإبراهيم هنانو. وبالنسبة للساسة وقادة التحركات العسكرية، فإن الوحدة السورية العراقية كانت أمرا لا بد من البت فيه، سلبا أو إيجابا.
كذلك، فإن انقلابات كل من حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي، لم تبتعد ولو نظريا عن السجال المستمر حول الوحدة مع العراق، بل إن هذه القضية كانت في حالات معينة جزءا من الخلفيات التي حركت الضباط أو أحزابهم.
وعندما قامت حركة مصطفى حمدون، التي أسقطت، بالتحالف مع البعثيين والمستقلين، نظام أديب الشيشكلي، في فبراير/شباط 1954، عرض العراق مساعدة الحركة وإرسال قوات إلى حلب، إلا أن قادتها أصدروا بيانا يرفضون فيه أي تدخل من "النظام السعيدي العميل" نسبة إلى نوري السعيد.
وحين حدثت الوحدة السورية المصرية بين عامي 1958-1961، كان السؤال المطروح في دمشق هو: أين يقف عراق نوري السعيد، ومن بعده عراق الزعيم عبد الكريم قاسم، من هذه الوحدة؟ وهل يقع العراق في خانة المتآمرين عليها، أو أنه بالمقدر استيعابه، اعتبارا من عهد قاسم، رغم تحالفاته مع الشيوعية العالمية، "المسحور بها"؟
وعندما حدث الانقلاب الانفصالي على دولة الوحدة، في 28 سبتمبر/أيلول 1961، كان السؤال المطروح في ذلك اليوم المشؤوم، هو: هل كان للعراق دور في هذا الانقلاب، إضافة لأدوار الآخرين، المصنفين في خانة أعدائه، أو أنه مجرد مستفيد طبيعي مما حدث، نظرا للخصومة القائمة بين الزعيم قاسم والرئيس جمال عبد الناصر؟
هذا الانفصال، أو الردة القومية المشؤومة، لم ينل من عزم التيارات الوحدوية في الساحة السورية، التي انقسمت حول رؤيتها لإعادة الوحدة، واستتباعا موقع العراق منها.
وبعد ثورة الثامن من مارس/آذار 1963، كان الاتجاه الغالب هو أن الوحدة يجب أن تكون ثلاثية، بين سوريا ومصر والعراق. ومن هنا، جاء توقيع اتفاقية الوحدة الثلاثية في القاهرة يوم 17 أبريل/نيسان 1963، بيد أن هذه الاتفاقية لم تدخل حيز التنفيذ، وذلك بسبب طوفان الوساوس والشكوك، والاستغراق في التيه النظري العقيم، وعدم استقرار الوضع في العراق، وضغوط الخارج، الصريحة منها والضمنية.
وبعد 23 فبراير/شباط 1966، وخروج القيادة القومية القديمة من سوريا، واستقرار زعامتها في العراق اعتبارا من يوليو/تموز 1968، حدث تحوّل كبير في مسار العلاقات السورية العراقية.
في دمشق، كان ثمة تباين داخل حزب البعث حول العلاقة بالأقطار العربية، وما إذا كانت تمثل أولوية راهنة أم لا. وفي الأخير، ساد الاتجاه القائل بهذه الأولوية. ومرة أخرى، كان العراق أول المعنيين بالتحوّل الجديد، أو المستجد.
أما في بغداد، فكانت المجموعة السورية في جناح القيادة القومية القديمة للبعث، التي أعيد تشكيلها، قد مثلت عامل تعزيز للشقاق السوري العراقي. وقد تزايد هذا الدور في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات، على النحو الذي يعرفه الجميع.
الآليات تعبر الحدود
ومع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، دخلت العلاقات السورية العراقية فصلا جديدا، بدا إشكاليا وشائكا. وامتد هذا الفصل حتى الغزو العراقي للكويت وحرب الخليج الثانية.
بُعيد هذه الحرب، اتجهت العلاقات نحو هدوء ملحوظ، وأصبحت سوريا مركز إمداد العراق الرئيسي بالغذاء والدواء، والرئة التي يتنفس بها، في مواجهته للحصار متعدد الطبقات الذي فرض عليه.
في العام 2003، حدث الغزو الأميركي للعراق، وكانت معه العلاقات السورية العراقية على موعد جديد، بدا صعبا وقاسيا، في حسابات السياسة والأمن معا. وكانت إحدى النتائج المباشرة لهذا الغزو تدفق نحو مليوني لاجئ عراقي إلى الداخل السوري، جرى استيعابهم بالكامل. وقد تركز قسم كبير منهم في ريف دمشق، وخاصة في دوما، التي بدت وكأنها صورة مصغرة لبغداد.
وعند الانسحاب الأميركي نهاية العام 2011، كانت الأوضاع الأمنية في سوريا قد دخلت هي الأخرى مرحلة جديدة، كان العراق ذاته في طليعة المعنيين بها.
ومنذ البدء، سعت بغداد، التي أدركت خطورة الأحداث الدائرة من حولها، إلى الدخول كوسيط في الأزمة، وأرسلت وفدا إلى دمشق، قدم مرئياته للحل السياسي، إلا أن مساعيه لم يُقدر لها الوصول إلى خواتيمها.
وبعد تصاعد الأحداث الأمنية، وخاصة في المحافظات الشرقية للقطر، بدا العراق وقد انتابه شعور بالوجل والريبة، وأدرك أن ثمة خطرا محدقا يتربص باستقراره الأمني والاجتماعي. وهنا، اقترب خطوة أخرى من دمشق، على الرغم من بقائه في دائرة الحياد.
والحياد في هذه الحالة ليس حيادا سياسيا، بل إجرائيا، بمعنى عدم دخول بغداد كجهة داعمة ماديا لأي من أطراف النزاع. وهذا موقف صعب للغاية بالنسبة لدولة تجري مهاجمتها، على نحو دائم، من قبل مجموعات مسلحة تنطلق من الأراضي السورية، وتقيم على الطرف الآخر للحدود.
من جهة أخرى، كان انبثاق جماعات مسلحة ذات نشاط عسكري في الساحتين السورية والعراقية، قد عنى عمليا نقل عوامل الحرب وانسيابها في الاتجاهين، على مستوى المقاتلين والعتاد وإدارة المعركة. وأصبح تعزيز القوة في إحدى الجبهات يعني بالضرورة تعزيزها في الجبهة الأخرى، أو لنقل زيادة فرص هذه الجبهة.
هذا الوضع، لم تتعرض له أية دولة أخرى في الجوار السوري، بما في ذلك لبنان، الذي عانى من سلسلة تفجيرات وأعمال عنف، استهدفت ساحاته وأحياءه المدنية، وتبنتها جماعات مسلحة كانت تنطلق في الغالب من مدينة يبرود، ومناطق أخرى في القلمون، ثم تمركزت بعض جيوبها في أطراف جرود بلدة عرسال، قريبا من الحدود السورية اللبنانية.
ولا تزال هذه الجيوب تنفذ عمليات انتحارية، وأعمال عنف، ضد الهيئات المدنية والأمنية اللبنانية، كان منها ذلك الذي نفذ في ضهر البيدر، وأعقبه بثلاثة أيام، في الثالث والعشرين من يونيو/ حزيران 2014، انفجار منطقة الطيونة، في ضاحية بيروت الجنوبية، وهي منطقة مختلطة مذهبيا، وذات كثافة سكانية عالية، ويشير استهدافها إلى انسداد أفق لا ريب فيه.
من أين يبدأ الحل؟
بالعودة إلى العراق، وتداعيات الحدث السوري على استقراره الأمني والاجتماعي، يُمكن القول إن عملية سلخ الموصل، وفصله عن سلطة الدولة الوطنية العراقية، والسيطرة بعد ذلك على بلدات ومناطق أخرى في شمال وغرب البلاد، قد مثل تهديدا كبيرا لمستقبل العراق ووحدته الترابية، كما لسلمه الأهلي وتعايشه الوطني.
إن هذا الحدث قدم النموذج الأكثر تجليا لعواقب الوضع السوري على استقرار المنطقة. وهو ما كان ليكون لولا تمدد الأزمة السورية، وتضخم مضمونها الأمني، عبر عدد لا يحصى من الجماعات المسلحة، التي جلبت عناصرها من جهات الأرض الأربع.
هذا الوضع، سمح بحشد قوة عسكرية، متقدمة عدة وعديدا، والانطلاق بها عبر الحدود إلى الداخل العراقي، ومن ثم إعلان ساعة الصفر، واحتلال الموصل.
يقول البعض إن جزءا من المعركة خاضته تشكيلات عراقية. وهذا صحيح بالطبع، لكن هذه التشكيلات ليست هي الأصل، وإن الحدث الرئيسي صنعته قوة وافدة من الجانب الآخر من الحدود.
وهذا يعني، في التوصيف القانوني، أن ثمة عدوانا خارجيا قد حدث ضد الدولة الوطنية العراقية والمجتمع الأهلي العراقي. وهو عدوان انطلق على جناح الأزمة السورية وفي ظلالها.
هذا العدوان له هدف تكتيكي يتمثل في الإطاحة بالسلطة السياسية الراهنة في العراق، وهدف أبعد مدى يتجسد في إعادة توجيه العراق سياسيا. وتحديدا إعادة رسم سياسته الخارجية، وخاصة حيال سوريا.
ويبدو أن العراقيين قد فهموا الرسالة على جناح السرعة، وأدركوا أن الحرب المعلنة هي حرب إرادات، تستهدف إخضاعهم ولي ذراعهم. كما تستهدف القفز على خيارهم الثقافي والاجتماعي، الذي ولد سلطتهم السياسية الحالية، وقرر إعادة إنتاجها في انتخابات أبريل/نيسان الماضي، التي شهد العالم بنزاهتها.
في ضوء هذه القراءة، جاءت الدعوة لملايين العراقيين لحمل السلاح، دفاعا عن الخيار الثقافي الاجتماعي.
وهنا، حدث تحوّل تاريخي، ذو صلة بالعراق والمنطقة، فثمة جيش رديف تشكل بحكم الأمر الواقع. وهو سيضاعف ثقل العراق الأمني، ويمنحه بُعدا أيديولوجيا، أكثر تجليا ووضوحا. وحينها، سوف يدخل أمن الخليج، بالضرورة، مرحلة إعادة التعريف الإستراتيجي.
ونحن الآن ربما نكون على مسافة عام وحسب من هذا المنعطف، الذي من شأنه تغيير البيئة الجيوسياسية للمنطقة.
إن ما حدث في العراق يُمثل نتاجا قاسيا للأزمة السورية، وهو حدث سيعود مجددا ليتفاعل معها، ويُعمق من مضمونها الأمني في الاتجاهات كافة. وسوف يمد في مفاعيلها الإقليمية، وانعكاساتها السالبة على الأمن الدولي.
إن نقل الآليات المصفحة إلى دير الزور والحسكة، ووصول سيارات هامفي إلى حلب، يشير، على نحو لا لبس فيه، إلى إننا بصدد انسياب متبادل للأخطار والتحديات، على مستوى لم نكن قد وصلنا إليه قبل بضعة أسابيع خلت.
إن ثمة جبهة واحدة قد تشكلت بين محافظات الشمال والغرب العراقي ومحافظات القطر السوري الشرقية. وهذه ليست وحدة نضال بين شعبين أو بلدين، بل هي منظومة أخطار عابرة للحدود.
إن حصول جهة معينة، تُعد الأكثر تطرفا، على ترسانة متقدمة من السلاح لا يجوز أن يمر مرور الكرام لدى المجتمع الدولي.
إن ما حدث لا يُمثل تهديدا للشعبين العراقي والسوري فقط، بل هو أيضا تهديد مباشر للدولة التركية، وما هو أبعد منها.
إن من نفذ العدوان الجديد على العراق هو ذاته من هدد أوروبا بالأمس القريب، وهو من أعلن مرارا نيته اقتحام الكويت، وإسقاط حكومتها.
وإذا كان هناك من يعتقد أن بإمكانه استخدام هذه الجهة الظلامية، ثم الرمي بها، فهو خاطئ تماما، ذلك أن من يزرع الريح يحصد العاصفة. يحصدها بالضرورة. وهذه قاعدة تنطبق على الأمن والسياسة، كما الحياة العامة.
يُمكن قوله، في نهاية هذا الإيجاز، هو أن توابع الأزمة السورية وزوابعها قد تمددت كثيرا، وأضحت تمثل تحديا إقليميا جليا، عاما ومتسعا. وإن الرهان على تعظيم المضامين الأمنية لهذه الأزمة لا يعني سوى شيء واحد، هو أن الشرق الأوسط برمته في طريقه لأن يصبح برميل بارود.
إن الحل بعيد المدى للأزمة في العراق يبدأ بالضرورة بحل واقعي ومنطقي للأزمة السورية، الذي بدونه أيضا لا يستقيم أمن الشرق الأوسط وأوروبا.
إن القوى الحية في المجتمع الدولي معنية اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالتأكيد على الحل السياسي البناء للأزمة السورية. وعلى الجميع الابتعاد عن المقاربات الانفعالية العقيمة، التي أثبتت ضررها العميق لشعبنا ولمقدراته وأرزاقه.
الجزيرة
عبد الجليل زيد المرهون
الأزمة السورية تطيح باستقرار العراق 989