إن من أهم الأولويات اليوم المساهمة في تحقيق الوعي الثقافي اليمني وإعادة بناء عالم الأفكار، والدعوة إلى وضع ملامح تخطيط ثقافي يمني "استراتيجية ثقافية" يُعيد بناء التصاميم الذهنية اليمنية ويوفر الطاقات ويهندسها، ويضعها في المجال المُجدي، لتنتهي بذلك مرحلة الرسم بالفراغ، التي ورثناها عن مراحل التخلف، وساهم في تكريسها التقليد والاستنساخ لأفكار ورؤى الأخر، الذي لا نزال نُعاني من آثاره على أكثر المستويات، بالرغم من الدعاوى الكثيرة التي تريد أن تُثبت عكس ذلك، ويبقى المطلوب دائماً مزيداً من إلقاء الأضواء الإضافية على جوانب المشكلة الثقافية، للوصول إلى إعادة صياغة وتشكيل العقل اليمني، أو إعادة ترتيب العقل العام لليمنيِ اليوم، وتخليصه من الجزئية المتناثرة، وعجزه عن مواجهة مشكلاته وتحدياته الداخلية منها والخارجية على حد سواء، على ضوء رؤية يمنية المنشأ والهوية ذات إخلاص وصواب، ودراية ، فيها طرفا المعادلة جامد وجاحد والتي استحال علينا حلها طيلة عصر التخلف والسقوط الحضاري..
لذلك كان لا بد من أن نحل المعادلة، بعيداً عن المواقف التصرفات الانفعالية الخطابية، التي تحرك العاطفة ولا ترشد العقل، وتعتمد التهويل والمبالغة، ولا تخدم القضية اليمنية، بل على العكس قد تساهم مساهمة سلبية غير مقصودة في تخلف اليمنيين.
إن محاولة إعادة ترتيب العقل اليمني، أو إعادة تشكيله أو صياغته، ومنحه القدرة على التخلص من استبداد الجمود والجحود ، قضية تجد في طريقها الكثير من الصعوبات والركام الذي قد يلبس الأمور ويغيب الرؤية الصحيحة للأشياء، والقدرة على إبصارها ومن ثم تصنيفها، إنها تتعلق بصميم المشكلة الثقافية التي نعاني منها بعد أن زرعت في نفوسنا القابلية لها، على القرون.
لذلك كان لا بد من المعالجة المنهجية الحكيمة المتأنية الناضجة، ولا بد من تناول القضية من أكثر من طرف وإلقاء أكثر من ضوء إضافي عليها، واستعمال أكثر من وسيلة، والصبر والاحتمال لما يمكن أن يحدث من خطأ في المقايسة والموازنة، ومن عجز في الإبصار وعثرات على الطريق.
ولكن مع ذلك تبقى القضية ملحة بعد هذا الواقع الثقافي الهجين الذي انتهينا إليه، والذي حمل إلينا ما يفيد وما لا يفيد، ما لنا وما ليس لنا واختلطت فيه المفاهيم، نتيجة لانقسام المجتمع إلى جامد متمسك بما هو قائم وجاحد بكل ما هو قائم من بيئته الاجتماعية .
لقد أصبحت الحاجة ملحة لعملية التنقية الثقافية، وأصبحنا أحوج من أي وقت مضى إلى الذين يحملون عقل المهندس، ومبضع الطبيب. وحرقة الوالدة، على مستوى الفكر والثقافة، ليقوم بعملية الإخلاء والإملاء، أو عملية الهدم المسبوقة بمخطط واضح ومدروس لعملية البناء لأن بعض الناس يحسنون الهدم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولأنه يتناسب مع طبائعهم وانفعالاتهم واستعجالهم لكنهم يعجزون ولا يحتملون البناء، لأن البناء يستدعي التأني والصبر والزمن والنضج، وكلها متطلبات لا تقتضيها عملية الهدم. وتبقى المشكلة في بناء العقلية القادرة على البناء وفي تصويب مسار هذه القدرة.
ونحن نعترف أن ما أصاب العقل اليمني من صدوع ورضوض وكسور وتقطيع، فصده عن المضي إلى غايته ، وحال بينه وبين أن يدرك مصلحته وكيف يصنع مستقبلة ، لا يمكن أن يعالج ذلك الواقع بكتاب أو مقال أو محاضرة أو بحث، وإنما يتعلق الموضوع بصميم المشكلة الثقافية، والمناخ الثقافي أو عالم الأفكار، الذي يشكل المتطلب الضروري لإعادة تشكيل العقل وتربيته ومنحه القدرة على استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير وحمايته من التحيز وإنكار حق الأخرين في امتلاك شيئاً من الحقيقة ،وللوصول إلى شيئاً من ترشيد العقلية اليمنية فلا بد أن نمتلك الصبر والقدرة على المعالجة طويلة النفس، باستمرارية المحاولة وببراعة وتأني وفقاً لتخطيط يشمل برامج وبرامج بديلة ومنهجية لتقييم خطوات تصحيح مسار تصويب الثقافة ودورها في تطوير العقلية اليمنية ليتمثله اليمني في سلوكه من هنا تحصل النقلة الحقيقية في عملية التطوير الذاتي ومن هنا تنبثق سلامة الرؤية الدقيقة لسلم المشكلات التي تواجه اليمنيين "فقه الأولويات " وهذه هي مرحلة التهيئة لعملية البرمجة " المنطلقة من عملية التمييز بين آثار المشكلات وأسبابها ، وبالتالي تصنيفها وفقاً لأهميتها والمقدرة على تنفيذها ومن هنا نتخلص من وهم التطور الذي سيطر على العقلية العامة بقصد أو بدون قصد ونوقف هدر الطاقات؛ بالاعتماد على التقييم المصاحب واللاحق لنتمكن من الحد تأثير عوامل المقاومة والمعالجة لأسباب القصور مع استمرارية التركيز على أسباب ومظاهر المشكلة العامة، وتجنب الانجرار في أزقة المشكلات الفرعية .
إن عملية إعادة صياغة العقلية اليمنية هي عملية مزدوجة في حقيقة الأمر أو ذات بعدين رئيسين:
1. 0تصحيح التصور: للوصول إلى القدرة على إدراك حقيقة الأشياء والتفريق بين السبب والنتيجة لننطلق في الحل لأزالت السبب، ثم نتلافى الأثر وندرك أن السبب هو الجاني والأثر هو المجني عليه ،ومن هنا نستطيع إيجاد حلول يمنية متكاملة ومتوازية لا يصطدم بعضها بالآخر التي تستطيع من خلالها أن تفسر الظواهر الاجتماعية تفسيراً واقعياً نابعاً عن تصور شامل لليمن والحياة واليمني، لتتوحد في أذهاننا إجابة موحدة على التساؤل لماذا نفعل ما نفعل وبذلك نتجنب محنة اختلاف التفسيرات وألقاء المسئولية ولا تقع فريسة للتفسيرات غير الإسلامية ، كما أنها لا تبقى مهوشة غير قادرة على التوازن والاعتدال .
2. النظرة الكلية عند تشخيص الوضع الراهن ووضع الحلول والمعالجات وبذلك نتخلص من التوهان في الجزئيات والتقليد ولا نحرم من الاستفادة من جهود الآخرين، سواء أكان ذلك بالتعامل مع التراث أم القدرة على استلهام الحداثة لمواجهة حاجات العصر المتجددة بالتخصص والأداء الفردي والجماعي الشامل والمجدي، وهذه هي العقلية العامة التي تدرك أن العلم شيء والثقافة التي تستطيع توظيف هذا العلم والإفادة منه شيء آخر.
ويمكن لنا أن نأتي بمثال على ذلك:
إن العالم اليهودي الذي اخترع مادة متفجرة جاءت كثمرة لتخصصه العلمي، كان إلى جانب هذا التخصص العلمي الدقيق يتمتع بثقافة توراتية ورؤية دينية توجه ملكاته وتوظف تخصصاته للعمل على تحقيقها، وذلك في الوصول إلى أرض الميعاد وإعادة بناء الهيكل، إنه لم يكن عاجزاً عن توظيف مخترعه العلمي من خلال تلك الثقافة، لقد فرض على الحلفاء في الحرب العالمية أنه لن يبوح لهم بسر المخترع الذي يمكنهم من النصر ما لم يأخذ عليهم العهد في تأييد حق اليهود في فلسطين؛ وهذا الذي كان!، وقدم هذا العالم لأبناء دينه ما لم يستطع تقديمه جيش من الجهلاء أو العلماء الفاقدين للبصيرة والثقافة، والذين لا تزيد علومهم عن أن تكون نسخاً جديدة مما قرأوا أو معاجم جامدة في المكتبة!.
أين هذا من بعض اليمنيين اليوم الذي جاءت مكوناتهم الثقافية انبهار وتقليد وجحود بتراثهم الإيجابي فتمثلوا بذلك السقوط الحضاري والتخلف الثقافي والعجز العقلي؟! فتسيطر عليهم كراهية مفرطة لكل مكونات البيئة الاجتماعية اليمنية وتعمى بصائرهم عن إدراك حقيقة النسبية في الظواهر الاجتماعية فقد استطاع الرئيس إبراهيم الحمدي أن يبعث ثقافة التعاون المترسخة في جذور الشخصية اليمنية على امتداد اليمن وفي مختلف المستويات الحضرية اليمنية ،ومما يؤسف له إن اختلال عقلية كثيراً من الصفوة يفوق قدراً وأثراً عن اختلال العقلية العامة اليمنية.. أليست هذه حالة محزنة وثقافة محزنة وواقع أليم؟!.
أحمد محمد الحاضري
إعادة بناء التصاميم للثقافة اليمنية 1287