ليس من المستغرب أن يتساءل البعض بجدية وموضوعية عن مغزى ودلالات قرار مجلس الوزراء بإعطاء الجنوبيين الأولوية في التوظيف وشغل الوظائف الشاغرة بالوزارات والمؤسسات والهيئات المركزية والأولوية في التأهيل والتدريب على مستوى الخدمة المدنية والقوات المسلحة والأمن وكذا عن الألية التي ستتبع في تنفيذ هذا القرار خصوصاً وأن المعالجات التي نادت بها النقاط العشرين والإحدى عشر الأخريات للقضية الجنوبية, لم تتناول المعيار الذى بموجبه سيتم تحديد وتصنيف هوية وماهية المواطن الجنوبي المستفيد من هذا القرار الذى جرى التبرير له من كونه يندرج في اطار تحقيق العدالة وتعويض أبناء المحافظات الجنوبية عما لحق بهم في السنوات الماضية من ضيم وإقصاء وتهميش.
حيت وان مصدر الغرابة يكمن في أن مثل هذا القرار يشرعن للتمييز المناطقي ويخضع الوظيفة العامة لاعتبارات الانتماء المناطقي بدلاً من معيار الكفاءة بل أن الأخطر من ذلك انه الذى يقسم أبناء الوطن الواحد إلى هويتين ويحمل أبناء الشمال مسئولية ما حصل في المحافظات الجنوبية من أخطاء أو تهميش مع أن من يرصد حركة الواقع بوعي وصدق وأمانة سيجد أن ما جرى في الجنوب من مثالب أو أخطاء أو إقصاء أو تهميش لا علاقة لأبناء الشمال فيه وان تحميل الشماليين مسئولية تلك الأخطاء وإقناع عامة الجنوبيين بذلك, إنما هو الذي سيدفع بكلا المكونين للإيمان بان العدالة والتعايش لن تتحققا إلا اذا عاش كل مكون لوحده وفي ظل هوية منفردة ومختلفة عن هوية الأخر.
وليس مفاجئاً أيضا أن يمثل ذلك القرار بالنسبة لقطاع واسع من أبناء الشمال باعثاً للحديث عن دوافع تضخيم الخصوصية الجنوبية لدرجة الصفاء الهوياتي سيما وهم من يشعرون أن مضمون ذلك القرار قد جاء متصادماً ومتناقضاً كلياً مع مفردات خطاب رئيس الجمهورية عشية الأول من شهر رمضان المبارك والذي جاء ليقنعهم بأن ثمة قيادة تسعى جاهدة لإرساء أسس الدولة الحديثة القائمة على العدالة والمواطنة المتساوية وتكافؤ الفرص والشراكة التي لا غبن فيها لاحد؛ إذ انه وبغض النظر عن الضرورات التي دفعت بالحكومة إلى إصدار مثل ذلك القرار والمشروعية التي اكتسبها من مؤتمر الحوار, يبقى من المؤكد أن من وافقوا على ربط الوظيفة العامة بمعيار الانتماء المناطقي لم ينظروا سوى إلى نصف الكوب الفارغ إنْ لم يقوموا بتكرار الخطأ الذى وقعت فيه لجنة الحكم الرشيد في مؤتمر الحوار حينما وافقت على نص يتضمن في الدستور الجديد على تقسيم مناصب سلطات الدولة مناصفة بين الشمال والجنوب مع أن المناصفة والندية بين الشمال والجنوب في سلطات الدولة وهيئاتها وقيادتها ومؤسساتها المركزية هو إجراء ظالم حتى لأبناء الجنوب أنفسهم الذين لاشك وان الكثير منهم يرفضون أن يكون إنصافهم مدعاة لظلم أبناء الشمال.
ومن يتفحص ردود فعل الجنوبيين على قرار مجلس الوزراء السالف الذكر سيجد هناك من سارع إلى التحذير من اصطفاف جنوبي يؤدي إلى اصطفاف مماثل في الشمال من شأنهما أن يشعلا الضغينة والأحقاد والكراهية بين أبناء الوطن الواحد بل أن من تابع عدداً من الكتابات سيلحظ مدى تذمر الكثير من مضمون ذلك القرار وصيغته الفجة والمستفزة إلى الحد الذى رأينا فيه من يتساءل عمن هم الجنوبيون الذين أراد القرار منحهم حق الأولوية, فهل هم مواطنو كيانات جنوب ما قبل 1967م ؟ أم مواطنو الدولة المركزية الجنوبية التي نشأت عقب الاستقلال من الاحتلال البريطاني؟ أم مواطنو الكيان الذى اندمج في اطار الدولة الموحدة في مايو 1990م ؟ أم هم أولئك المواطنون الذين غادروا الجنوب إلى المحافظات الشمالية على خلفية الصراعات السياسية بين الجبهة القومية وجبهة التحرير والانقلاب على الرئيس قحطان الشعبي ثم الانقلاب على الرئيس سالم ربيع علي ثم مجزرة 13 يناير عام 1986م واستقروا في الشمال والذين يخشون اليوم من أن يجري تكييف القضية الجنوبية على حساب القضية اليمنية والهوية المشتركة التي تعايش في ظلها جميع اليمنيين بأمن وسلام بعيداً عن أي تمييز مناطقي أو اصطفاء هوياتي إلى درجة أصبح فيها قبل الوحدة عدد من أبناء الشمال حكاماً في الجنوب والعكس أيضاً, ولو كان الأمر غير ذلك فكيف قبل الجنوبيون أن يكون عبدالفتاح إسماعيل قبل الوحدة رئيساً للجنوب ورئيساً للحزب الحاكم فيه وهو من أصل شمالي؟ وكيف قبل أبناء الشمال أن يصبح عبدالله عبدالمجيد الاصنج وزيراً لخارجيتهم ومحمد سالم باسندوة على رأس اكثر من وزارة سيادية وغيرهما من الأسماء المنتمية إلى الجنوب؟ وبعد ذلك كيف قبل قادة الشمال والجنوب الاندماج في كيان واحد بعيداً عن الربح والخسارة والمحاصصة وتقاسم غنيمة السلطة؟.
عبثاً يحاول بعض المتزلفين إقناعنا بان حل القضية الجنوبية لن يتم إلا بقرارات ربما تبدو موجعة للشمال وان الوصول إلى دولة مكتملة التكوين تقوم على حكم المؤسسات والقانون لابد وانه الذى يقتضي التضحية من طرف لصالح الطرف الأخر مع أن هؤلاء يبدون اكثر تناقضاً مع انفسهم والأهداف التي يرفعون شعاراتها حينما يقبلون بمخرجات الحوار الخاصة باقتسام السلطة ويرفضون نصفها الآخر الذى يؤكد على قيم العدالة والشراكة والمواطنة المتساوية.
وعبثاً أيضا يحاول بعض المتحذلقين من الذين أدمنوا النفاق المجاني إقناع انفسهم بان الدولة الاتحادية إنما هي التي ستكون مصطلحاً بلا مضمون إن لم يمنح الجنوب الذى لا يزيد سكانه عن 20% من سكان اليمن نفس حصة الشمال في غرفتي التشريع (النواب والشورى) ومالم تطبق معادلة الأرض مقابل السكان والتراب مقابل البشر على مستوى المبادئ العامة للدولة الاتحادية وقوانينها.
والأكثر من ذلك أن نجد أصحاب الصوت المرتفع- ممن يدافعون اليوم عن القضية الجنوبية- يصرون على أن عرى التعايش السلمي بين مكونات الشعب اليمني وعلى نحو أدق بين الشمال والجنوب قد تعرضت لجراحات يصعب شفاءها مالم يعترف الشمال بانه كان ذات يوم ظالماً والجنوب مظلوماً.
ولذلك فكيف سيكون اليمن موحداً أو اتحادياً وهناك من يتمسك بشروطه ويصر على معاقبة الآخر ولا يكتفي بما حصل وسيحصل عليه من تعويضات وكيف لنا أن نجد وحدة اليمن ووحدة مكوناته تزدهر وهناك من يتمسك بهوية مزعومة وموهومة تنطق بها الشفاة في لحظات سياسية غارقة في التجريد فيما صار الآخر مستسلماً لخيار الانفصال ولكنه يرفض الإفصاح عن ذلك حتى لا يقال انه قام أو دعم تفكيك اليمن وتقسيمه فتلحقه لعنة التاريخ رغم إقراراه في داخله أن الانفصال صار أفضل وأشرف من كل وحدة تطير حروف كلماتها وسط هتافات من يتحدثون باسم الجنوب ونيابة عنه.
علي ناجي الرعوي
التمييز المناطقي..انتصار على الوطن!! 2004